الذهاب إلى الصفحة الرئيسية للموقع

صرخة البراري
King Country

تأليف : مارغريت واي
******************
الملخص
----------
بعد اغتراب طويل عن نفسها وعن ارض طفولتها واحلامها, عادت كولبي اخيراً الى جذورها .. الى أرض كنجارا التى تحتضن فيترابها كل عظمة و أساطير القارة الاسترالية , والى ابن عمها دارتلاند كينغ الذي يضاهي أرضه صلابة وعنقواناً . كان جزءاً منها ومن احلامها . المثال الذي كانت دائماً تتطلع اليه وهي طفله . لكنها لم تعد طفلة الآن! ولم تعد كذلك الفتاة الوحيدة وفي حياته . فهل تصمد براءتها امام اغراء وجاذبية منافستها روشيل تيتانت؟ ام تعود كولبي الى الاغتراب عن نفسها عندما تصطدم احلام طفولتها بحقيقة كونها لم تعد طفلة؟

تحميل الرواية مكتوبة

تحميل الرواية مصورة

الفصل الأول : حوار مع الأرض
*************************
الطائرة تحلق بهم الآن فوق بلاد كينغ على بعد ثلاثة آلاف ميل الى الجنوب الغربي من مقاطعة كوينزلاند. الأرض الممتدة تحتهم تحتضن في ترابها كل أمجاد وعظمة القارة الأسترالية , بلاد قديمة شهد تاريخها العريق مغيب ملايين الشموس قبل أن يطأها الأنسان. وتسارعت خفقات قلب كولبي , فالطبيعة حولها كانت تحمل معنى خاصا يتجاوز لجمال الظاهري , للأرض الحمراء المتمردة الغارقة منذ الأبد في نار الشمس , تأثير بالغ عليها يشعرها بالدماء تضج في عروقها , والحياة تسري في أعماقها , هذا عدا ذاك الأحساس العميق بالأنصهار في روعة الطبيعة التي تجمع بين القساوة والحيوية ظلال الألوان المتماوجة بين الأصفر والبرتقالي الأحمر تجتمع كلها في شعلة نارية تتراقص بجنون فوق المساحات الشاسعة , أنها منطقة غامضة وجذابة وغنية بأساطيرها الحالمة التي تحميها الصخور الملتهبة , والسهول الفضية , ورمال الصحارى التي لا نهاية لها. الشمس تتصدر السماء الزرقاء الصافية , لترسل أشعتها بدون تردد , فتتوج الأرض بهالة من الجلال والعظمة. أنها أرض قاسية ترقص فيها الحيوانات قرب الواحات , وتزهو الببغاوات بألوانها المرحة التي تزيدها الشمس روعة وفرحا فتتمايل زهزا الى جانب الطيور الأخرى التي تغني بسعادة قرب النهر الصغير , حيث تلهو بجعة غافلة بنفسها عن صقر منتصب على تلة قريبة مترصدا فريسته. وبلاد القناة أو شانيل كانتري ما أقساها في وقت الجفاف , وما أروعها بعد هطول الأمطار , عندما تصبح متوحشة الجمال وكأنها بعض من الجنو الموعودة , عالم خيالي الألوان , تطرزه الزهور ميلا بعد ميل في لوحة تتألق بألف لون ولون . حتى الصحراء تحيا حين تحولها الأمطار الى مساحات تزينها زهور الأفاصيا , صحراء ولكنها ليست بصحراء فهي تحتاج للماء فقط رمز الحياة لتولد الحياة والجو بخلوه من الغبار صفاؤه يخدع النظر ويلهو بزرع السراب هنا , وهناك ساخرا بالأنسان وبعيونه المتعبة , ويركض الهواء مكتويا بنار الشمس , فيقفز كالشعلة ذات البريق الحاد فوق تلال الرمل وبين السهول , ليكبر الحلم , وتترد أنعكاساته في المساحات الفضية التي أكسبتها الشمس بريق المرايا . أنها أرض السراب , حيث تظهر الأشباح فجأة ,فيطال رأسها السحب , وترتجف الشجيرات الصغيرة تحت أقدامها ويخرج العمالقة من السهول المرتعشة , فتتباعد واحات المياه السحرية عندما يحاول أحد الأقتراب منها , أنها أرض يحولها الضوء الى وهم. " يا حبي يا بلادي". غنت كولبي وأحتوتها سعادة عارمة أحست بها تصل الى حافة الألم , فتحتها أسطورة من البطولة والحرية نسجت خيوطها صورة ناثانيل كينغ الشاب البريطاني المغامر الذي شق طريقه الى أستراليا من الأرجنتين وباتاغونيا , والى حقول الذهب في بالارات , وبنديغو يشده السحر الخفي النابع من أول معدن ثمين يعرفه الأنسان. ناثانيل كينغ ... كينغ الأسطورة ,ما من أمة أخرى كانت تستطيع أن تصهر مثل هذا الرجل , ولد في جو مفعم بالحب والأمان والأستقرار , لكن روحه المغامرة التي ترفض القيود والحدود لم يكن يرضيها ويشدها الا التحدي الموجود في الم جديد لم يروضه الأنسان , ودفعه حسن طالعه الى أرض كوينزلاند في أواخر العام 1880 , أرض أبدية الغموض والخصب , وبلاد غنية بالخيول والمواشي . هنا أستقر مسلحا بيديه اللتين أرهقهما التعب , وبقبضة من حجارة الذهب , وبزوجة تضاهيه صلابة , وبأصرار على قبول التحدي , ليبني كنغارا التي أحب , ويكون الرائد في تجارة صغار العجول. وخلال السنوات العشر التالية لحق به أشقاؤه الثلاثة , بعدما أثارتهم رسائله المتفائلة , ووعوده لهم بأرض تفوق بحجمها أي مقاطعة بريطانية . أدوارد كينغ الشقيق الأكبر أختار مساحات كبيرة من الأراضي في أواسط كينغزلاند , ورسم ماثيو كينغ فلحق بشقيقه في كنغارا ,ليكون ولده رفقا لوريثها سيروس كينغ , الفتى الذي كان يضاهي والده صلابة وعنفونا. واليوم تمتد أراضي عائلة كينغ من بلاد القناة , مرورا بأواسط المنطقة , وصولا الى الخليج , وكلهم من أصحاب المواشي , الأبناء يعتقدون بأن آباءهم كانوا أيضا من أصحاب المواشي. وأنعكست شمس الظهيرة على أجنحة الطائرة ذات المحركين , وهي تغوص أكثر فأكثر داخل المنطقة النائية , أسترق بوب غافين الطيار الشاب , نظرة الى الفتاة الجالسة بقربه كان هناك شيء أكبر من الأمتار القليلة يفرق بينهما , ففي الدقائق الأخيرة أنطوت الآنسة كولبي في عالم خاص بها تسيطر عليه كنغارا أخذ يدرس جانب وجهها بأهتمام , رعشة رضى وأسترخاء تهز ذقنها وهي تحال السيطرة على التوتر الذي تفضحه كل حركة في جسمها الرقيق وكسر صوته حاجز الصمت. " والآن , ما رأيك يا آنسة كينغ؟ هل ما زالت البلاد كما تتذكرينها؟". وللحظة نظرت اليه كأنها لم تره أبدا في حياتها , ثم أنفرج فمها عن أبتسامة حالمة. " لم تتغير تقريبا يا سيد غافين , رغم الأعوام الثمانية التي مرت على آخر مرة رأيتك فيها , وطيلة ذلك الوقت كان لدي أحساس غريب بأنني تائهة في أرض لا أنتمي اليها , أما الآن فأنا في أرضي مجددا". صوتها تردد خفيضا متوترا , فترك في أذنيه أنطباعا مثيرا وتابعت حديثها بدون أن تحول عينيها عن الأرض القريبة منها: " تخيل فقط يا سيد غافين , أن مصر وروما واليونان وبابل كلها مجتمعة هنا , أنها أرض غريبة وغامضة , لكنني أشعر بسيطرتها وبنارها تحرق عظامي". أبتسم وهو يبحث بعينيه عن أدق الأختلاجات في جانب وجهها , أنفعالها مس وترا رقيقا في قلبه , وكذلك الأشراقة الناعمة التي توجت تقاطيعها الشابة . " أنت تحملين لهذه الأرض حبا عميقا , أليس كذلك يا آنسة كينغ ؟ لا ألومك أنها جوهرة هذا الجزء من العالم". وأضاف بسرعة: " أسمي بوب يا آنسة كينغ". نظرت اليه كولبي مبتسمة , وهي تعي أهتمامه بها لأنشغالها بالذكريات التي عادت لتحيا في أعماقها ,سقطت السنوات لترجع طفلة صغيرة في طريقها الى الينبوع حتى صوتها صار أكثر طفولة وحلما. " هل تعلم أنني أمضيت أجمل أيام طفولتي في هذا المكان ؟ كنت أجري بين التلال والأنهار , والسهول , لأحترق بنار الشمس , وأتعلم لغة الطبيعة, والحياة المتوحشة , وروزنامة الورود , وتقاليد السكان الوطنيين , وكنت أدور في زورق أبن عمي دارت عندما كان يدعن أفعل ذلك , كان بطلا بالنسبة لي , كان طويلا وقويا وجرئا". " أصدقك , أنه صلب كوالده , الكل يهاب دارتلاند كينغ ويحترمه , أنه رجل مميز , لكن المرء يستطيع التقرب منه". وصمت بوب غافين عندما شعر بأنه سيتكلم أكثر من اللازم , ففي حياته كان سيروس كينغ معروفا بسلطته وديكتاتوريته. هزت كولبي رأسها حالمة وهي تمرر أصبعها فوق عظمة أنفها الصغير : " دارت كما أذكره لم يكن كالعم سيروس , كان فيه الكثير من والدته , العمة راشيل ربتني , هل تعرف ذلك؟ كنت أحبها كثيرا , رغم أنها لم تكن عمتي فعلا , سيروس كينغ ووالدي كانا أولاد عم , ورفيقي صبا , حضنتنا العائلة , أبي وأنا , بعد وفاة والدتي , كنت في الرابعة من عمري". وحاول بوب غافين أن يكمل القصة بصوت فيه الكثير من الود والأهتمام : " وعندما لقيت السيدة كينغ مصرعها في الحادث الأليم , عدت ووالدك الى المدينة". هز رأسه بالأيجاب وهو يحاول أن يسترجع في ذاكرته كل أطراف الأحاديث التي سمعها في السنوات الماضية , كان من المعروف أنه جرت وقعة بين الأقرباء عندما أعلن سيروس كينغ عزمه على الزواج مجددا من أرملة لها ولدان , فالقرار هذا , برأي غالبية الناس , جاء مبكرا خاصة أنه لم يمض على وفاة السيدة راشيل كينغ الا أربعة عشر شهرا. لكن أحد لم يكن يعلم أن برادفورد كينغ , والد كولبي , كان يخفي في أعماقه حبا سريا لراشيل الجميلة الى جانب الأعجاب والتقدير , كولبي شعرت بمقدار الألم الذي مزق والدها عندما شرع سيروس كينغ بالبحث عن زوجة جديدة قديرة بما فيه الكفاية لتسلم شؤون المنزل الواسع , وكينغارا كانت بحاجة الى سيدة , وكان من واجبه أن يجد واحدة زواج المصلحة بدا وكأنه الحل الوحيد الذي فرض نفسه , ولم يسامح برادفورد كينغ ابن عمه على ما فعل , ورفض طوال حياته أن يسمع كلمة واحدة في صالحه كان جوابه الدائم: " كيف يستطيع أي كان أستبدال راشيل؟ وكيف يأمل أي كان حتى بمجرد المحاولة". وضاعفت الأعوام من مرارته , وكانت سنوات مليئة بالوحدة بالنسبة اليهما معا , غريب حقا أن تكون أفكار والدها توجهت الى دارت أو ربما الأمر ليس بهذه الغرابة , فدارت فيه الخصال الكثيرة من والدته , وكان هذا كافيا بالنسبة الى رجل محتضر فقد أحب دارت ورأى فيه الأبن الذي كان من الممكن أن ينجب : " سيرعاك يا عزيزتي كما فعلت والدته قبله ". وأمتلأت عينا كولبي بالدموع , كانت تقريبا هذه آخر كلمات قالها لها والدها قبل وفاته , والآن أصبح دارت ولي أمرها , والوصي على أملاك والدها , ابن عمتها دارت .... بطل أحلام طفولتها .... على الأرض ظهرت سيارة كبيرة تتسابق والتلال في محاولة لأرهاب الصقور وبعد عدة أنحناءات , ترجل السائق ليشير بذراعيه في حركات دائرية , دلالة على أن المدرج صار جاهزا للهبوط نظر بوب غافين الى الراكبة الشابة قائلا: " ضعي حزام الأمان يا آنسة كينغ , سنهبط ". أطاعت كولبي فورا وقلبها يخفق أضطرابا. ودارت الطائرة الصغيرة مرات عدة في الجو لتهبط أخيرا بدون أن تثير حولها غيوما من الغبار , أرخت كولبي حزام الأمان وجلست تنتظر , حان الوقت لتلتقي بعائلة دارت الجديد ة , زوجة والده بيلا , وستيفن الذي يماثلها عمر , وسوزان التي تخرجت أخيرا من الجامعة. كانوا غرباء تماما بالنسبة اليها , والدها حرص على ذلك. هدأت الطائرة تماما , ففتح بوب غافين الباب , وحمل كولبي بين ذراعيه ليضعها برقة على الأرض الغنية الحمراء , ولأول مرة منذ ثمانية أعوام طويلة تشعر كولبي بأرض كينغ تحت قدميها من جديد. السحر القديم عاد ليغلفها وكأنها لم تبتعد عنه أبدا , الأرض الخالة لا يمكن أن تتغير تحت أشعة الشمس , وظلالها ما زالت غارقة في وهج الذهب وصرخ في داخلها صوت كناقوس كبير: " هذه هي كنغارا .... ". أنها في أرضها ثانية!
2_ آخر الليل لقاء
******************
لن تنسى كولبي أبدا يوم عودتها الى الجذور , على جانبي مدرج الهبوط أصطف حوالي أربعين شخصا من السكان الوطنيين من خدم وعمال المزرعة الكبيرة الكبار منهم في السن أرتدوا ثيابهم التقليدية الزاهية , وزينوا رؤوسهم بالألوان الصارخة والريش , أما أجسامهم فتألقت بخطوط من الأبيض والأحمر والأصفر. وما أن وطأت كولبي المدرج حتى أرتفعت الأصوات مرحبة , وتمايلت الأجسام على أيقاع أقدامهم تضرب الأرض وهم يغنون بلهجتهم الوطنية لكن كولبي كانت تفهم جيدا ما يقولون: " أحبك , هل أنسى من أحب ؟ لا , عودي الى الينابيع السعيدة". وأغرورقت عيناها بالدموع , أحست بكل عواطفها تتفجر في تلك اللحظات , معظم هؤلاء الناس أختارتهم ودربتهم العمة راشيل , فبرهنواعن وفاء وأخلاص للبيت الذي ضمهم الكبار منهم أمضوا سنوات عدة من عمرهم في خدمة عائلة كينغ للأهتمام خاصة بالأطفال البيض الذين وضعوا تحت رعايتهم. بن العجوز وقف في مقدمة المستقبلين , هو أحد كبار قبيلة الكنغارا , تلقى ثقافة الرجل الأبيض فأستوعبها جيدا وبدون جهد , لكنه لم يفقد شيئا من حضارته الخالدة , وبدا وجه العجوز مشرقا بلون نحاسي تحت ظلال من الشعر الأبيض. وتوجهت كولبي اليه مباشرة مادة يدها بمحبة: " أنت لا تتغير يا بن , تماما كالأرض المحيطة بك". أشرق وجه العجوز فخرا وأعتزازا , وأنحنى يحييها بأحترام , وعيناه ترقصان فرحا. " أه لا يا آنستي , أهلا". نادرا ما كان يتكلم , لكن كولبي أحست أنه يحتضنها بالنظرة التي يغمرها بها , ترنحت قليلا وهي لم تزل واقفة في مكانها , لقد سافرت أكثر من ألفي ميل في الأربع وعشرين ساعة الماضية . وضع بن يده على كتفها بحنان قائلا: " أعتقد أنك متعبة يا آنستي". ضحكت كولبي بهدوء , فرنت ضحكتها وكأنها صرخة أرهاق. " أنا تعبة جدا يا بن , لكم هي رائعة العودة الى الوطن , أنها المرة الأولى بعد ثماني سنوات , لكنها لا تزال كما الأمس , مزيج من عطر الورود والأشجار". أبتسم مؤيدا , وأجتمعت بشرته الداكنة في شبكة رقيقة من التجاعيد الرمادية : " ها هو سيدي". قالها ببطء فأستدارت كولبي لتلاحظ للمرة الأولى سائق السيارة النحاسية اللون التي تحمل حرف الكاف محفورا بالذهب , كان شابا رقيق الجسم , تبرز تقاطيع وجهه الجذاب بحدة تحت تاج كثيف من الشعر الأسود نزع قبعته العريضة وأنحنى لها بأحترام مبالغ, فيه شيء من الآداء المسرحي ضكت كولبي ومدت يدها مرحبة: " لا بد أنك ستيفن". أبتسم لها وأمسك بيدها الممدودة: " لا أحد غيري يا آنستي , المرشح الثاني لوراثة الأمبراطورية في حال حدوث شيء ما للأخ الكبير دارت". " لنأمل ألا يصيبه شيء ألا بعد عمر طويل". أجابت كولبي بسرعة وفي صوتها شيء من الأستغراب. " أنا متعلقة جدا بأبن العم دارت". فرد ستيفن بعفوية: " ومثلك معظم الفتيات يا آنسة كولبي , دارت من أكثر العازبين شعبية لدى النساء , وأنا بعده طبعا". " كم أحسدك يا ستيفن". أجابته بسخرية , وأستدارت لتراقب بن الذي كان ينقل حقائبها الى السيارة والى جانبه بوب غافين يحاول جاهدا أن يفتح حوارا مع العجوز. ففي المنطقة أشتهر بأنه أفضل صياد في البلاد , وأروع من يروي النكات هذا أذا تمكن المرء من أن يجعله يتكلم وعادت كولبي بنظرها الى ستيفن فأسرع يقول: " هل تشرفنا الآنسة كولبي بتفقد الصفوف؟". ولم تخل نظرته من عبث ساخر وهو يفحص وجهها الصغير . " يسرني ذلك يا ستيفن". ومشت في أتجاه صفوف السكان الأصليين المنتظرين , الوجوه كلها أتجهت صوبها بأحترام ممزوج بأعتداد واضح بالنفس وبفخر أكيد بعرقهم , دارت كولبي بين الصفوف مبتسمة للجميع, محيية بالأسم الوجوه الأليفة التي عرفتها عندما كانت طفلة. " كنت رقيقة جدا ومتواضعة في معاملتك لهم , نحن لم نشهد مثل هذا الأستقبال عندما جئنا الى هنا". هكذا علق ستيفن فور عودتها اليه فأجابته كولبي بصراحة: " آسفة لذلك يا ستيفن , وأود هنا أن ألفت أنتباهك الى أنني لم أكن أتظاهر بالتواضع , أنا أحب هؤلاء الناس , كبرت بينهم ومعهم , لو أستطعت أن تكسب ثقتهم فأنهم يصبحون أوفياء لك , كانت عمتي راشيل تقول أن راحتهم يجب أن تكون من أهم أهتماماتنا , كانت سيدة عظيمة". " لا شك في ذلك يا آنسة كولبي , ما زلنا نسمع الكثير عنها من كل زائر يمر بالمزرعة". كان يتكلم بمودة قريبة من الطابع الرسمي وفجأة ضرب رأسه بكفيه وكأنه تذكر أمرا مهما: " أمي وسوزان تنتظراننا , دارت ذهب لزيارة عائلة تنتت المجاورة لنا على الحدود الشمالية الشرقية". رفعت كولبي حاجبيها متسائلة: " التيناتت , لا تقل أنهم أشتروا مزرعة موغارا من الكولونيل العجوز؟". " العجوز توفي منذ أربع سنوات بالسكتة القلبية , لا بد أنه كان متقدما جدا بالسن ,وعائلة تينانت أستقرت مكانه الآن , أنهم بالفعل أناس متحضرون ومن النوع الذي يصلح أن يجاوره المرء". " حقا؟". تمتمت كولبي بشرود , الكولونيل العجوز كان مؤسسة قائمة بذاتها في هذه البقعة النائية , رائد المدرسة القديمة , أنها تذكر كم كان معتدا بنفسه وبأرادته الحديدية , لهذا ساءها أن تسمع أحدا يتحدث عنه بهذا الأسنخفاف. ولاحظ ستيفن أنزعاجها فقال: "آسف , أخطأت أليس كذلك؟ أعرف أن دارت كان يقدر العجوز كثيرا , لكنه كان يبدو جافا وقاسيا". " ربما لكنه كان يملك روح النكتة والمرح أيضا". وأشرقت أبتسامتها الرائعة فتجاوب معها بسرعة. " في أي حال يا آنسة كولبي , نحن سعداء جدا لوجودك هنا معنا , يشعر المرء بالوحدة هنا بدون فتيات جميلات يتحدث اليهن". وتسللت الى عينيه الزرقاوين نظرة حائرة , فأبتسمت كولبي لتساؤله الصامت: " أعرف ماذا تقصد , أعتقد أن لأستعداداتك الطبيعية علاقة بالأمر يا ستيفن!". فقهقه الشاب عاليا: " الآن أنا لا أعرف ماذا تقصدين , مع هذا هناك متسع من الوقت , تعالي يا كولبي يجب أن نودع بوب , لا بد أنه يرغب في الأقلاع قبل حلول الظلام". وقبل أن ينهي عبارته أقترب منهما الطيار الشاب: " هل كل شيء على ما يرام يا آنسة كينغ؟". سألها بجدية يناقضها المرح في عينيه: "نعم , شكرا يا سيد غافين ... أقصد بوب , لم أكن أتوقع رحلة بهذا الهدوء". " شكرا وأهلا وسهلا بك دائما , علي أن أرحل الآن , ستيفن , هل لك أن تبعد الآنسة كينغ عن المدرج , لا أعتقد أنها تحب طعم الغبار". وأصر بوب على مرافقتهما الى السيارة لكنه خص كولبي بجملته الوداعية: " سأراك قريبا". وفرحت كولبي بالوعد , ففي هذه الأرض النائية القليلة السكان , يتخذ الأتصال بأنسان آخر أهمية لا تعرفها المدن. أدار ستيفن محرك السيارة , وأخذ يطلق الزمور تحية لبوب الذي وقف بعيدا يلوح لهما مودعا , أنزلت كولبي زجاج النافذة لتودع بدورها المستقبلين الذين بدأ شملهم يتفرق , وأخيرا أستراحت في مقعدها وأخذت نفسا عميقا: " كان الأمر رائعا". " نعم". أجاب ستيفن وكأنه ينتبه للمرة الأولى , وأمتزجت ضحكاتهما. وأسترق ستيفن نظرة الى القادمة الجديدة , أبنة عم دارت الصغيرة , أنها صغيرة بالفعل لكنها ليست أبدا كما تصورها , وتختلف أيضا عما توقعته والدته وشقيقته سوزان فبالأضافة الى جمالها كان لصوت كولبي طابع مميز يجمع بين الدفء والأنوثة الفائقة , أنه من ذات النوع من الأصوات , الذي يجد الرجال أنفسهم يستمعون اليه بدون الأهتمام فعلا لما يقول ترى كيف ستعاملها نساء المنزل , والدته وسوزان وروشيل تينانت التي فرضت نفسها كفرد من العائلة , برغم أنها لا تعني له أي شيء شخصيا , وتختفي كل رقتها وأدعاءاتها عندما لا يكون دارت موجودا. وأخذ ستيفن يحدق في أسراب النعام وهي تهرول بعيدا عن المدرج , قبل أن يتفوه بأول شيء يرد على ذهنه. " أعتقد أنك أفتقدت والدة دارت , يقال أنها كانت سيدة عظيمة". بدا صادقا في قوله لذا أجابته كولبي بعفوية: " نعم , ولا زلت أفتقدها يا ستيفن , كانت أمرأة رائعة , طيبة , نشيطة ونقية , تحيط بها هالة من الأشراق". " الرجال يتزوجون أمهاتهم أحيانا! وبسرعة تدارك خطأه , فأردف موضحا: "تعرفين ما أعني , أقصد أن الرجال يبحثون عادة عن الفتاة التي تشبه والدتهم ". دهشت كولبي لما قال , وبلعت ريقها بصعوبة قبل أن تعلق قائلة: " حسنا , أفهم فكرتك يا ستيفن , قل لي هل تتحدث بصورة عامة أم أنك تقصد شخصا معينا؟". تفحصها ستيفن بلمحة خاطفة: " الزمن وحده كفيل بالأجابة , آنسة كينغ ,من يعرف ماذا تخبىء له الأقدار". " وماذا عنك؟". أجابت كولبي حالمة , وفجأة تحول صوتها من الجدية الى المرح: " أنظر ستيفن , ما أروع التلال أمامنا , الأعشاب الخضراء تتأرجح عليه وكأنها تتمايل فرحا بالضوء المنسكب شلالات من الفضة تتلألأ بينها الحصى كأحجار كريمة , كنغارا , ها أنا آتية اليك , أفتحي أبوابك لأسقبالي". وكأن السيارة فهمت شوق الفتاة الى أرض أحلامها , فأسرعت تشق طريقها وسط النباتات الكثيفة التي أحتجت على الأستخفاف بها بأن أستجمعت عطرها ترسله موجات من الطيب تسلقت الأشجار الباسقة , التي تحول ظلالها الوافرة أكثر الأيام حرا الى نسمات. وفكت السيارة الحصار الأخضر عنها لتركض غير مبالية برائحة المسك التي تداعب الهواء وكأنها تريد ملاعبته وعندما يئست الأشجار من أستبقاء كولبي , أرخت أغصانها عن المنازل الصغيرة المحيطة بالمزرعة وبالبيت الكبير. وتجولت عينا كولبي في الطريق المعبد بحصى بيضاء , لتستقر أخيرا على بيت طفولتها المنتصب بأعتداد , متوجا بالرداء القرمزي الذي خلفته عليه شمس المغيب ,كنغارا الرائعة! لم تنسها أبدا , هذه الواحة الصغيرة المستلقية بكسل في أحضان الزهور البرية , مستكينة الى الأيدي المحبة التي تعتني بكل حبة من ترابها. حتى وهي طفلة , كانت تقف طويلا أمام أنعكاسات الشمس على السور الحديدي الذي يحيط بالشرفات كتخريج رقيق سهرت على نسجه أيدي النساء , فأستبقى نور الشمس ليعكسها مزيدا من الأضواء على عالم كنغارا السحري. البيت الكبير رفض منذ تأسيسه كل مظاهر الحضارة الزائفة , وأستبدلها بجمال الأرض المتوحشة العذراء , فكانت كل حجارته جزءا من صلابة الصخر ونعومة الرمال. كم هو جميل هذا البيت العريق , ربما أجمل أيضا من الأيام الخالية عندما كانت طفلة تسري الحرية اليوم لم تعد طفلة, والسنوات الطويلة الموحشة التي أرهقت كاهلها في أيام الغربة , أصبحت مجرد ذكرى. وتوقفت السيارة أمام الشرفة الأمامية , حيث وقفت بيللا وسوزان تنتظران الضيفة الشابة , ونزلت بيللا الدرجات القليلة , وثوبها البنفسجي يتأرجح بأناقة حول جسمها الطويل الرقيق مظهرها ومشيتها كانا كما يتوقع المرء من سيدة كنغارا أن تبدو وتمشي , حتى العم سيروس لم يكن ليستطيع وحده تدبير شؤون المزرعة الكبيرة بدون مساعدة سيدة قديرة تقف الى جانبه لكنها لم تستطع أن تقنع والدها بذلك , فهذه المرأة ليست بالعمة راشيل , برغم شخصيتها المميزة وأناقتها الواضحتين حتى عن بعد. وأجتازت بيللا الأمتار التي تفرق بينهما , وأتسعت عيناها الزرقاوان الباردتان عندما أستقرتا على كولبي , ثم أنفرجت شفتاها عن أبتسامة غاية في الجاذبية. " أهلا بك في كنغارا يا عزيزتي , نحن سعداء لأنك معنا". وتحولت الى أبنها قائلة: " أنقل حقائب كولبي الى الشرفة يا ستيفن وأتركها هناك". وصعد ستيفن الدرجات الأربع المؤدية الى البيت وهو يتظاهر أنه يعاني صعوبة بالغة في حمل الحقائب أبتسمت بيللا لحركاته المسرحية وعلقت قائلة لكولبي: " هذا هو ستيفن , تعالي الآن لأعرفك بسوزان , دارت أضطر للخروج , أحد الجيران أستنجد به لأمر ما". ولحقت كولبي ببيلا , لتحيي الفتاة المستلقية بلا مبالاة على سور الشرفة الحديدي وفاجأهما صوتها الواضح الشاب عندما قالت: " أنت لست كسائر فتيات دارت". قالتها بأستغراب وكأنها ترى الأمر غريبا لدرجة لا يمكن معها تصديقه , أنزعجت بيللا , وأشتعل وجهها الجذاب غضبا قبل أن تنظر الى كولبي معتذرة: " كولبي عزيزتي , أود لو تعذرين سوزان , أنها تمر حاليا بفترة عصبية". ورمت أبنتها بنظرة قاسية: " أما أنت يا سوزان لو تتذكرين أبسط أصول الأدب". " آسفة". تمتمت سوزان الكلمة مرغمة , ومع هذا الأستقبال الجاف , وجدتها كولبي فتاة جميلة , أو كان من الممكن أن تكون جميلة لو أهتمت أكثر بمظهرها الخارجي . فهي طويلة القامة , رشيقة الجسم , ولها ملامح والدتها الجذاب , شعرها الأسود رفعته الى الوراء على شكل ذيل الحصان , أما سروالها وقميصها فكانا في حالة رثة. وأبتسم ستيفن مداعبا شقيقته: " لا تهتمي بها يا كولبي , أنها الأبنة الوحيدة والمدللة للسيدة كينغ , من مزرعة كنغارا". تجهم وجه سوزان وأضطرت الأم للتدخل ثانية بما تبقى لها من صبر : " يكفي يا ستيفن , لا أدري ما ستظنه كولبي بنا". " فلنسألها , كولبي ما رأيك بنا؟". ولمعت عينا كولبي بضحكة مكتومة : " سأحتفظ بحكمي حتى أتعرف اليكم أكثر ". وأستقرت ثلاثة أزواج من العيون عليها تتفحصها بأهتمام , سوزان كانت محقة , الآنسة كولبي كينغ ليست كما توقعوا ثيابها البسيطة العملية تفضح بخطوطها المدروسة توقيع أشهر دور الأزياء , ألم يقل لهم أنها من الفرع الفقير من عائلة كينغ , وأن لا مال لديها يذكر؟ بشرتها المشرقة الفاتحة كانت مفاجأة لهم , فمعظم أفراد عائلة كينغ بشرتهم داكنة , دارت مثلا يبدو ببشرته النحاسية كالهنود الأصليين برغم عينيه الغريبتين الفاتحتين . شعرها القصير الناري الخصلات يتوج وجها رقيقا , فيه خدان عالا الفكين , أما عيناها فواسعتان خضراوان تتألقان تحت حاجبين داكنين لهما حد السيف وميزات خاصة بهما وفي عينيها أيضا أعتداد واضح بالنفس , وأصرار التحدي مع لمحة من الشقاوة , بشرتها الصافية لا تشوبها نقاط النمش التي ترافق عادة ذوات الشعر الأحمر , نتيجة حساسيتهن لأشعة الشمس. وأبتسمت كولبي للأنطباع المرتسم على وجوههم: " ربما تطلعونني لاحقا على رأيكم". وطبعا كان ستيفن أول من تبرع بالأجابة: "سنخبرك فورا يا عزيزتي , نجحت في الأمتحان". ولم تدع بيللا أبنها يكما حديثه : " هل سنبقى النهار كله واقفين نتحدث , تعالي يا كولبي , فلندخل المنزل". وسبقتهم الى غرفة الجلوس , ووراءها كولبي , كم هي جميلة هذه الغرفة بمساحتها الواسعة التي يتوزع في أرجائها مزيج مدروس من الأثاث القديم والحديث أشعة الشمس المحتضرة تسللت من النوافذ لتتكاسل على الخشب المتلهف لألتقاطها , ولتحيي الخطوط الصفراء الذهبية التي تزين الستائر وأقمشة المفروشات. أشعلت بيللا الأضواء الكهربائية , فخرجت راشيل كينغ من الظلمة لتعود الى الحياة , رسمها يتصدر الغرفة ويسيطر عليها , صورة أمرأة جميلة في ثوب للسهرة بلون السماء , يتهدل شعرها الطويل الأسود حول وجهها الجذاب الذي تزيده بريقا عينان فيهما الكثير من السحر. ولم تستطع كولبي أبعاد نظرها عن اللوحة , حتى تناهى اليها صوت بيللا: " لا شيء يتغير أليس كذلك يا كولبي؟ آه نسيت أنك آتية من سفر طويل , لا بد أنك مرهقة". " لا يبدو عليها ذلك يا أمي". قال ستيفن مقاطعا والدته , فتجاهلته هذه الأخيرة لتتابع حديثها : " سوزان سترشدك الى غرفتك , دارت أختارها لك , أعتقد أنها غرفتك القديمة , سيكون لديك متسع من الوقت للراحة ولأستبدال ملابسك قبل موعد العشاء , آمل أن يعود دارت باكرا". " شكرا لك يا سيدة كينغ". " أسمي بيللا , أو العمة بيللا أذا كنت تفضلين ذلك , , في أي حال أنت قريبة دارت , وبصراحة لا أعرف أين كنا نصبح لولا وجوده". " سأدعوك أذا العمة بيللا". ولحقت كولبي بسوزان الى الجناح الغربي , لم يتغير شيء , فعدا لمسة أو لمستين شخصيتين بقيت الأشياء كلها في مكانها وقطبت كولبي حاجبيها وهي تتذكر لمحة القلق التي ظللت وجه بيللا عند ذكرها لأسم دارت , عرفت من محامي العائلة أن سيروس كينغ لم يغير الوصية التي كتبها مباشرة بعد ولادة دارت وهذا يعني أن دارت ورث وحده كينغارا وكل الأراضي التابعة لها , أي زوجة والده وولداها يعتمدون الآن على طيبة دارت وأستعداده للأنفاق عليهم, أمر غريب فعلا لكن سيروس كينغ كان معروفا بتصرفاته غير العادية توفي في وقت كان الجميع يظنون أنه سيعمر طويلا , وأغلقت كولبي ذهنها عن هذه الأفكار فهذه ليست مشكلتها. فتحت سوزان باب غرفة كولبي وهي تبتسم هازئة: " غرفة أبنة عم دارت لعزيزة". ولم تنتبه كولبي لتعليقها الساخر , فالذكريات خطفتها على عتبة الباب لتعيدها سنوات عدة الى الوراء. " لا تهتمي بي يا كولبي ,أعتقد أنك مغرمة به كسائر الفتيات , وأظن أنك تحبينه أيضا". وأنتزعت كولبي نفسها من حصار الذكريات لتحاول التركيز على ما تقوله الفتاة. " آسفة يا سوزان , لم أسمعك". " قلت أنك أيضا مغرمة بدارت". " لا أستطيع أن أقول بأنني مغرمة بأحد , لم أعرف معنى الحب بعد". " طبعا لم تعرفيه , نسيت أنك من سلالة عائلة كينغ الصلبة". " وهل هذا عيب". " لا.... أحيانا , لا بد أنك كنت تقدسينه وأنت طفلة , دارت يقول أنك كنت تركضين في كل أرجاء المزرعة كغزال بري". " هل قال ذلك فعلا؟ غزال بري؟". " هل كنت كذلك؟". " تقصدين برية الطباع ؟ نعم , ولست متأكدة من أنني أصبحت أليفة الآن". " لا تتهربي من الجواب , أريد أن أحذرك منذ الآن بأن دارت وجد الفتاة المناسبة ونحن نوافقه أختياره". " أتعنين أنك توافقين شخصيا على أختياره يا سوزان". وأبتسمت كولبي وهي تتوجه الى طاولة الزينة المزينة بتماثيل رقيقة من الكريستال , تلمستها بنعومة , تحمل في شفافيتها شخصية العمة راشيل , ألوان الغرفة وحدها تغيرت من الوردي والأبيض الى االعاج المحلى بالذهب الستائر ومفارش السرير تألقت بلون أخضر فيه شيء من عمق عينيها , وعلى الجدران أصطفت مجموعة رائعة من الزهور الأسترالية البرية سجينة في أطارات ثقيلة من الذهب. " غرفة مترفة أليس كذلك يا آنسة كولبي كينغ ؟ دارت حرص على ذلك , لا بد أنه تذكر أخيرا عينيك الخضراوين , ولكن هذا لن يجديك شيئا , ستعرفين ما أقصد حين ترين روشيل تينانت". " أنا في شوق لمعرفتها , وأود أن أذكرك هنا يا سوزان بأن دارت يبقى أبن عمي , مهما كانت درجة جاذبيته لدى الأخريات". ولم تعد كولبي تحتمل أستفزاز هذه المراهقة لها , لقد مرت بفترة عصيبة خلال الأشهر القليلة الماضية وهي في حاجة الى الراحة والأستقرار , لكنها عادت لتضعف أمام حيرة سوزان وقلقها. " أود أن نصبح صديقتين يا سوزان , أنا لن أبقى هنا الوقت الكافي لأعرقل مشاريعك يا عزيزتي". " أنا صديقة روشيل , تخبرني بكل ما يحدث معها". أصرار سوزان على متابعة الحديث دفع بكولبي لأن تكون أكثر صراحة : " آسفة سوزان , أنا تعبة , هل تعذريني حتى موعد العشاء". " لا شيء يسرني أكثر... يا آنسة كينغ!". وألقت الكلمات الأخيرة وكأنها توجه أهانة كبيرة لكولبي , التي أغلقت وراءها الباب ضاحكة. ونسيت كولبي سوزان وهي تقف أمام النافذة العريضة تراقب تماوج الألوان بين البنفسجي والأحمر والوردي على الأفق الغربي , الذي رسم خطا فضيا بين التلال والسماء . وهتفت كولبي عاليا: " أليس المشهد رائعا ! الأشياء كلها هنا رائعة الجمال". لم يعد دارت في موعد العشاء , فتناولوا طعامهم من دونه ,المائدة تألقت بمفرش أبيض أبرز لونه الشفاف بريق الأدوات الفضية وزخرفة الصحون الصينية الثمينة. وأنتقلت بنظرها الى أفراد الأسرة , بيللا أنيقة جدا في ثوبها الحريري البنفسجي , اللون المفضل لديها , ستيفن كعادته كان يضج نشاطا وحيوية , أما التنازل الوحيد الذي قامت به سوزان فكان أستبدال سروالها الرث بآخر من الجلد. ولم يكن العشاء ناجحا برغم أصناف الأطعمة الشهية التي برعت الطباخة في أنجازها , وأبتسمت كولبي لمدبرة شؤون المنزل وهي تنظف المائدة من الصحون المستعملة , سيدة صغيرة ممتلئة الجسم , في وجهها طيبة المزارعين ,وفي عينيها ذكاء فطري ولاحظت بيللا أهتمام كولبي : " آسفة يا كولبي , لم أعرفك بها , أنها السيدة نيل أيفانز زوجة كبير عمال المزرعة.... نيل هذه كولبي قريبة دارت". " أهلا بك في كنغارا يا آنسة كولبي , آمل أن يكون العشاء أعجبك !". " كثيرا يا سيدة أيفانز , أنت طاهية ماهرة". " علي أن أكون كذلك , دارت يحرص على أحاطة نفسه بالترف والأشياء الجميلة". وأختفت في المطبخ لتعود بعد دقائق بالجبن والحلوى والبرتقال فتمتمت سوزان ساخرة: "طبعا علينا أن نعمل جاهدين لأرضاء دارت , فيكون فخورا بنا". تنهدت والدتها في ضيق بدون أن تقول شيئا , وكي تقطع كولبي الصمت الثقيل الذي جثم على الغرفة غيّرت مجرى الحديث: " أود مساعدتك قدر الأمكان يا عمتي بيللا , طيلة الفترة التي سأمضيها بينكم , هل في ذهنك عمل ما أستطيع القيام به". "لا تقلقي سنجد لك عملا". علق ستيفن بمرح فأسكتته والدته بتعب: " يكفي يا ستيفن , أما أنت يا عزيزتي كولبي فشكرا على أقتراحك , عندي لك....". وتوقفت عن الكلام فجأة كأن الفكرة خانتها, فسارعت كولبي الى القول: " محاسبة , مراسلة........". نهضت سوزان بغضب , وصرخت: " أنا حائزة على شهادة في الطباعة على الآلة الكاتبة , لكن يبدو أني لست بالكفاءة االكافية , أو ربما لست بالمستوى الذي يرضي دارت , وأكتشف الآن أنني لم أعد أعجب أمي أيضا , حسنا , دعوا هذه الآنسة المذهلة تتسلم كل المهام , وسنرى كيف ستتصرف!". " كفي يا سوزان". قالها ستيفن بهدوء ,وبدون أن ينظر اليها. فأبتعدت سوزان مسرعة قبل أن يفضح أحدهم الدموع السجينة في عينيها. وأضطربت كولبي لنفور سوزان الواضح منها , فألتفتت الى بيللا مستنجد ة , لتجدها في تقشير تفاحة وكأن الحديث لا يعنيها , وعندما شعرت بيللا بحيرة كولبي وحزنها حاولت تبديد الغيوم بتغيير الموضوع. " أنت لا تشبهين كثيرا أفراد عائلة كينغ , يا كولبي , لا بد أن فيك الكثير من ملامح والدتك". " أعتقد أن لي لون البشرة ذاتها , كنت في الرابعة من عمري عند وفاتها , ولذا لم تسنح لي الفرصة لمعرفتها فعلا". " الأمر محزن حقا!". ولاحظت بيللا الشحوب الذي ظلل وجه كولبي : " أنت مرهقة يا عزيزتي , يجدر بك الذهاب الى الفراش باكرا". وأحست كولبي بالأرهاق يصل الى أطراف أصابعها , كانت تعرف أن السبب ليس رحلتها الطويلة الى كنغارا , بل توترها العاطفي , كانت تخشى هذا اللقاء الأول مع عائلة دارت ولذا حشدت كل طاقتها الذهنية لتواجه مخاوف طفولتها , الآن لم يعد هناك شيء تتوقعه , عدا رؤية أبن عمها دارت وأستفاقت من أحلامها على صوت ستيفن. " هل تستطيعين ركوب الخيل يا كولبي؟". " طبعا , أستاذي كان ماهرا حقا , أمضى دارت ساعات طويلة في تحسين أسلوبي". " لدارت أسلوب خاص ومميز في التعامل مع االخيول , رأيته مرة ..". وقاطعه صوت آنية تتكسر في المطبخ , تبعه صوت السيدة أيفانز معنفا الفاعل , وغرقت كولبي في الضحك. " آسفة يا عمتي بيللا , لم أتمالك نفسي , ما زالت حية في ذاكرتي أصوات الأواني تتكسر على أيدي الخادمات الصغيرات اللواتي لا يعملن بجدية ". ودخلت السيدة أيفانز الغرفة حاملة صينية القهوة: " آسفة يا سيدة كينغ , يبدو أن الصحون تنساب من بين أصابع الخادمة الجديدة كرمال الصحارى". " آمل أن يتغير الوضع قبل أن نفقد الأواني كلها , دعي القهوة هنا يا سيدة أيفانز , وعودي الى منزلك فلا بد أن زوجك ينتظرك". " ألا تعرفين موعد عودة السيد دارت الى المنزل: " بصراحة لا". " حسنا , سأذهب , تصبحون على خير". " وأنتم من أهل الخير يا سيدة أيفانز". وبعد أنتهائهم من تناول القهوة , عرضت كولبي تنظيف الطاولة من الأكواب والصحون , فأسرع ستيفن لمساعدتها مما لفت أنتباه بيللا التي علقت ضاحكة: " هذه سبقة في كنغارا ! أن يعرض ستيفن خدماته". "لا بد أنه تأثير كولبي يا أمي". بعد ساعات كانت كولبي لا تزال مستيقظة تحدق في الظلمة التي لم يكن يضيئها أي شعاع قمر , النجوم فقط كانت تتألق في السماء وكأنها أحجار من الماس تناثرت بفوضى مدروسة الهواء أبى أن يخلد الى النوم وأصر على متابعة صفيره الهادىء قرب جانب المنزل , السكون خيّم برهبته على جميع الكائنات ولم يجرؤ على تحديه ألا طير ليلي أختفى في مكان ما يتنهد عاليا. وبرغم تعبها الشديد لم تتمكن كولبي من النوم , جلست في فراشها تستنشق رائحة الياسمين تحاول عبثا أن تعرف سبب توترها , أسترجعت في ذهنها صورة أفراد عائلة دارت وتوقفت طويلا عند سوزان حائرة في تفسير نفور الفتاة منها وقطع حبل أفكارها صوت سيارة تهدر في البعيد , ففي السكينة تفرض أصغر الأصوات ذاتها على الأعصاب الساهرة. نهضت كولبي من فراشها وأشعلت الضوء الصغير قرب السرير , الساعة كانت تجاوزت الحادية عشر والنصف , لا بد أنه دارت عائد من منزل تينانت , أبتسمت حالمة , هو أذا من كانت تنتظر ! بحثت عن الرداء الذي تضعه عادة فوق ثياب النوم , فوجدته ملقى على مقعد قريب , تأملته طويلا , كم هو جميل هذا الرداء! أبتاعه لها والدها من الشرق الأقصى ,حريره الأخضر يضفي تألقا مميزا على عينيها , أما الفراشات المتناثرة عليه بألوان صارخة , فتزيدها رقة وأنوثة , رداء تستطيع وضعه أينما كانت. وأرتدت كولبي الثوب , وضمته جيدا عند الخصر , ثم وقفت أمام المرآة تسرح شعرها بأهتمام , ولم ترضها صورتها المنعكسة في الزجاج المصقول فأضافت لمسة من أحمر الشفاه الوردي على شفتيها لتمسحها بعد ثوان , وأخيرا جلست تنتظر مجيء دارت , وهي تحاول جاهدة السيطرة على توترها وترقبها. دارت! أتراه تغير ؟ هل أضفت عليه أحلام طفولتها تلك الصفات الرائعة التي تجمع بين القوة , والمرح أو الجدية وأطلت عليها أبتسامته المشرقة من وراء شريط الذكريات فأحست للمرة الأولى في تلك الأمسية المتعبة , براحة عميقة غسلت تشنج أعصابها , وأسترخت بهدوء على المقعد الوثير. وبعد دقائق , سمعت كولبي صوت سيارة توقف في الممر المؤدي الى المنزل , تلاها صمت قصير , ثم وقع قدمين على الحصى وترددت كولبي لدقائق معدودة , قبل أن تفتح باب غرفتها لتنزل الى الطابق الأسفل , خفاها الرقيقان لم يكن لهما أي صدى على الأرض الخشبية. في الرواق كان الضوء خافتا , وكذلك في غرفة الجلوس , أما المطبخ فكان يشتعل نورا , تسللت اليه كولبي على أطراف أصابعها , ووقفت ساكنة على العتبة , كان دارت منحنيا على مائدة الطعام , يتناول عشاء سريعا ومؤلفا من بيض , وحبتي طماطم ,وقطعة جبن , ورغيف خبز , ورغم أنه كان يدير ظهره لها ألا أنه قال فجأة: " لا تقفي هناك يا كولبي , تعالي لأراك". وغصت كولبي أنفعالا , لكنها حاولت أن تخفي توترها بتعليق ساخر: " هل لك عينان في مؤخرة رأسك يا سيد دارتلاند كينغ؟". " فقط عندما يكون الأمر متعلقا بك يا عزيزتي , ألا تذكرين كم مرة أنتشلتك من النهر عندما كنت طفلة صغيرة؟". وببطء أستدار دارت ليتفحصها بحنان , لم يتغير وجهه كما عهدته ما زال قويا , معبرا فيه شيء من القسوة ينساها المرء حين يغرق في عينيه الدافئتين , تنبع منه ثقة واضحة بالنفس ,وأنطباع بالسيطرة يصل الى حد التعالي , لكنه الرجل الذي أستطاع أن يحقق شيئا مهما في حياته , دارت لم يتغير , أما كولبي فلم تعد طفلة. " أهلا بأبنة عمي الصغيرة , أخيرا عادت الشاه الضائعة الى المنزل". ومرت الثواني بطيئة وهو يحدق في وجهها الجميل , وتلاعب شبح أبتسامة رقيقة على زاوية فمه قبل أن يقول مداعبا: " هذه هي أبنة عمي المشاغبة , ما زالت كما كانت عدا بعض التغيرات البسيطة هنا وهناك , لكن أخبريني أين ذهبت بالنمش؟". وأقتربت منه كولبي بخطى مترددة: " نمش؟ وجهي لم يكن أبدا مغطى بالنمش , ألا تتذكر يا دارت؟". وحاولت كولبي السيطرة على نبراتها حتى لا تفضح أضطرابها الداخلي : " نعم أتذكر يا عزيزتي , كنت طفلة برية لكننا سنسجنك في قفص هذه المرة". خانها الجواب فأبتعدت عنه لتشغل نفسها بأعداد طعام العشاء , راقبها دارت وهي تكسر البيض في الوعاء الكبير وكأنها تقوم بعمل مهم يحتاج الى كثير من الأنتباه وأخيرا رفعت عينيها اليه وقالت بحزم: " ما زلت برية يا دارت , لم ولن أتغير". " معك لا يستطيع المرء أن يتوقع ما سيحدث لاحقا , أعرف أنك لا تقصدين المشاغبة , فهذه طبيعتك النارية , يبدو أن لون شعرك الأحمر له علاقة بتصرفاتك , الناريات الشعر معروفات بأنهن ناريات الطباع أيضا , لكنني مسؤول عنك الآن ,وأعرف أنك ستنفذين كل ما يطلبه ابن عمك دارت منك". ولمعت عيناها ببريق الشقاوة الطفولية: " أرى أنك ما زلت محتفظا بتعاليك القديم يا أبن عمي العزيز , نسيت كم أنت عنيد". " وأنت أيضا كنت دائما تتصرفين على مزاجك حتى وأنت طفلة". ووجدت كولبي نفسها تخفق البيض بعنف غير ضروري. " لكنني لم أعد طفلة يا دارت ". " لاحظت ذلك , أصبحت فتاة كبيرة أذا , في أي حال الكبيرات يتسببن بمشاكل أكبر من الصغيرات , هذا هو رأي جميع الرجال المساكين". وضحك عندما لاحظ أضطرابها , تناول سيكارة , ووقف بتكاسل ليجيء بعود الثقاب. " صحيح أنني أعيش هنا في عالم الرجال , لكنني أفكر بالنساء أحيانا , وخاصة ذوات البشرة الفاتحة". أشعل سيكارته وعاد الى المائدة ليتابع قائلا: " في أي حال روشيل هنا دائما". وللمرة الأولى تشعر كولبي بنوع من التوتر بينهما , جديد عليها هذا الشعور , فيه شيء من عالم الكبار , ولا علاقة له بأحلام الطفولة وعندما لاحظت كولبي النظرة لساخرة في عينيه أسرعت تقول: " آه روشيل... نعم روشيل طبعا , هل أرى قصة حب عاصفة في الأفق". أنفرجت شفتا دارت عن أسنان ناصعة البياض , لكنه لم يتفوه بحرف واحد. " فاجأتني يا دارت". " لماذا يا عزيزتي؟ الرجال يشعرون بالضجر أحيانا , أم أنك لا تظنين بأنني صالح لقصص الحب". عضت كولبي شفتها وأشاحت بوجهها عنه: " ما لك يا كولبي؟ لما الخجل؟". " لم أخجل أدهشتني الفكرة فقط". وضحكت لتخفي أنزعاجها حين لاحظت أنها ترتجف قليلا , وشغلت نفسها مرة أخرى بوضع مزيج البيض والأعشاب في المقلاة المشبعة بالسمن الساخن. " ما أطيب هذه الرائحة يا كولبي, أنا جائع, لم أتناول أي طعام منذ الغداء". " لن يكفيك البيض أذا , سآتيك بشريحة لحم". وأسرعت الى الثلاجة تتفقد محتوياتها , وأخرجت قطعة كبيرة من اللحم , أخذت تقطعها شرائح صغيرة وساد الصمت دقائق قليلة حتى أنتهت كولبي من أعداد الطعام وترتيبه على المائدة : " دارت". " نعم يا عزيزتي , هيا أفرغي ما في قلبك". " لا تسخر مني , أحاول أن أقول لك شيئا , ساعدني". " لا أريد مساعدتك!". " أنا أتكلم بجدية الآن , أريدك أن تعرف يا دارت أنني قادرة على الأعتناء بنفسي , لم يكن هناك ضرورة لأرسالي الى هنا وتحميلك مسؤوليتي , أنا أحب كنغارا , أنت تعرف ذلك , لكننني لا أريد مضايقة أحد , لا عائلتك , ولا......". وأمسك دارت بمعصمها وأخذ يشد عليه بقوة: " قلت لك يا صغيرتي بأنك جئت الى هنا للبقاء , أنت سجينتنا الآن ". " أرجوك يا دارت أنت توجعني". " آسف". ترك معصمها ولكنه لم يبعد نظراته المتحدية عنها . " في هذه الحال أحذرك يا دارت بأنني قد أسبب لك بعض المشاكل". " أنا أتوقع ذلك يا عزيزتي ,لكنني أعتقد أن لدي القوة الكافية لأسيطر على فتاة صغيرة". " يا ألهي , تجعل الأمر يبدو وكأنه جولة ملاكمة يا دارت العزيز". " ربما يدفعك ذلك الى التصرف بنعومة ورقة". " أشك بأن يحدث هذا , لكنني أعرف الآن على الأقل ما على توقعه". " أذا كنت تريدين الدخول في تحد , قد يفيدك أن تعرفي أنني أستطيع تحطيمك بيد واحدة ". " يا لك من رجل جبار!". وضحكا , فبينهما عادت تلك المداعبات الطفولية , وأحتضن دارت كولبي بحنان قائلا: " لا أريد أسترجاع الذكريات الأليمة , لكنني سعيد جدا لأن والدك فكر بي قبل وفاته , وتركك في عهدتي , كنغارا حزنت جدا لغيابك عنها , وأشتقنا نحن لضحكاتك ووجودك". وأبتسمت له كولبي برقة: " عليك أن تبتسمي غالبا يا صغيرتي ,الرجال يفعلون أي شيء لرؤية أبتسامة كهذه". " بالنسبة الى رجل يعيش في عالم للرجال فقط أنت فعلا خبير في أطراء النساء". ونهضت كولبي من مقعدها لتنظف المائدة من الصحون المستعملة وفناجين القهوة بعدما أنتهيا من تناول العشاء , ترنحت فجأة وكادت تقع لولا أن أمسك بها دارت في اللحظة الأخيرة . " أنت مرهقة يا صغيرتي , عودي الى فراشك , ستنامين كطفلة هذه الليلة". " تصبح على خير يا دارت , وشكرا لأنك أحتضنتني في كنغارا ". " أنت بحاجة لمن يرعاك في هذه الفترة , هيا أذهبي الى فراشك , تصبحين على خير ". وقبل أن تغلق كولبي باب غرفة الطعام وراءها سمعت دارت يتمتم: " أهلا بعودتك يا كولبي العزيزة". وكافأته بأبتسامة رائعة , لم ير دارت بمثل رقتها من قبل. " شكرا دارت". وقبل أن تستسلم كولبي للنوم , أحست للمرة الأولى منذ أنتزعها والدها من أحضان كنغارا , بالراحة والأستقرار والأمان , فأستغرقت في نوم عميق بدون أحلام.
3- أبنة الشمس
**********************
كان الصباح جميلا ومنعشا , والسراب يبدو بعيدا في الأفق , أفاقت كولبي عند أول بصيص ضوء ,مدت يدها وأدارت الساعة نحوها ,كان الوقت قرب الخامسة صباحا , أزاحت الستارة الرقيقة المحيطة بسريرها ونهضت وهي تشعر بحيوية فائقة كان من المستحيل معها البقاء في الفراش. وضعت رداءها الحريري الأخضر , وتوجهت الى النافذة لتبعد عنها الشبكة الواقية من البعوض , وتمد بصرها الى المساحات الشاسة في الخارج , كان العالم يستحم بضوء ذهبي ناعم , ترطبه نسمات منعشة , كم هو رائع هذا الهواء النقي , تنشقته بعمق مالئة رئتيها بأريجه القوي. وأطل الصباح بكل أشراقته , وطعمت الشمس الزهور بالذهب , ملقية ظلالا وردية على تلال الرمل المتثائبة . صقور النهر أخذت تحلق فوق الوادي فاردة أجنحتها لتلمع معدنا فضيا في ضوء الصباح الباكر ,والى الشرق كانت زرقة سلسلة الجبال تمتد طوال الأفق غارقة في السراب , حتى بدت كلوحة رسمتها مخيلة فنان , فأضفت عليها جمالا أبعد من الحقيقة. أما جو الصحراء فلم يكن يماثله أي جو آخر , الأشياء كلها تنتصب بوضوح خيالي , وقطعان الماشية تبدو على مرمى حجر بينما هي في الواقع على بعد عشرين ميلا. وبينما كانت كولبي تتأمل روعة الطبيعة الممتدة أمامها أرتفعت الشمس أكر في الجهة الشرقية من السماء , ترافقها ريح رقيقة تصفر بعذوبة بين الأعشاب المعطرة , ناثرة حولها البراعم الذهبية. لم تشأ كولبي أن تضيع لحظة واحدة من مهرجان الطبيعة التي أستيقظت فرحا بالضوء , فأرتدت سروالا من الجلد , وقميصا حريريا أصفر اللون ,وما هي ألا خمسس دقاق حتى كانت في طريقها الى النهر الذي شهد العديد من مغامرات طفولتها. أسرعت كولبي الخطى وهي تشعر بنفسها خفيفة لدرجة أحست معها أنها فراشة سعيدة بحريتها , وأخذت تدندن أغنية من أغاني السكان الأصليين تعلمتها في طفولتها في ذلك الوقت من الصباح كان الهواء لذيذا منعشا لكن لن يلبث أن ينفجر حيوية عند الظهيرة ,ويمارس خدعا بصرية على الأنسان المسكين الذي يخضع لأغرائه. ولم يمض وقت طويل حتى قطعت كولبي المسافة الى النهر المتعرج بين تظاهرة الزهور الملونة وأشجار الصمغ المحلية وفجأة سقط أمامها طير مالك الحزين , وكأنه يستنجد بهامن النسر الذي يطارده بوحشية , فصفقت بيديها عاليا , لتخيف الطائر الكاسر الذي أبتعد عن فريسته مسرعا. كان العالم الأخضر حولها يضج بالحياة , فتوقفت لحظة لتتأمل الطيور وهي تحلق ضاحكة فوق المستنقع القريب , قبل أن تستحم في المياه الضحلة التي أنعكست عليها الشمس أنوارا متلألئة . وكانت شفافية محببة من الضياء تتسرب من خلال ستار النباتات الأخضر , لتعانق الأرض المعطرة بالمسك , وأحتضنت الطبيعة كولبي وأنسابت الظلال الذهبية الى قلبها تدفئه من آخر قشعريرة تركتها سنوات الغربة في نفسها , وغنت الطيور فرحا بعودتها وصارت تثرثر بلا تعب أو كلل , بينما تابع النهر ترنيمه فوق الحصى التي شاركته غناءه سعيدة بيقظة الحياة. وللمرة الأولى منذ وفاة والدها وضعت كولبي رأسها بين يديها وبكت , الدموع المنهمرة فوق وجنتيها تساقطت بهودء لتغسل بقايا الحزن القابعة في أعماقها وأحتوتها الأرض النائية لتغلفها بسحرها البدائي وتمسح دموعها , وأحست كولبي أخيرا بالراحة والسلام , كانت الدموع ضرورية . وفجأة , وبدون سبب معين ,شعرت بأن أحدا ما يراقبها , أنزلت يديها عن وجهها , ومسحت دموعها بسرعة , ومرت دقائق وهي لا تزال في مكانها , وأحساسها يقوى بوجود شخص آخر وأصغت جيدا للأصوات حولها , منتظرة سماع نبرة غريبة , ولمحت النباتات على حافة النهر تتحرك , وتناهى اليها لحن قديم بعمر الأحلام رفعت كولبي رأسها ببطء على جذع شجرة كبيرة قرب أحد تعرجات النهر , جلس صبي صغير يلعب على آلة موسيقية بدائية , أنه رمز رائع لا يتخطاه الزمن. وتصاعدت الأغنية لحنا شجيا بدون كلمات , فرافقتها كولبي بصوت خفيض بدأ يعلو تدريجيا ليصدح بأغنية وطنية كانت غالبا ما ترددها وهي طفلة . وعلى مهل أقترب الصغير منها , ووقف الى جانبها بدون أن يتوقف عن العزف , وألتفتت اليه , كان في السابعة من عمره تقريبا , خصلات شعره الأسود تلتف حلقات غزيرة على رأسه وتنحدر بفوضوية على جبينه , عيناه الداكنتان الواسعتان تذوبان رقةةةةةةة ككل أبناء جنسه ,وكان صدره العاري يلمع ببريق نحاسي , فوق سروال كاكي اللون , من النوع الذي يرتديه عمال المزرعة وتوقفت الموسيقى فرحبت كولبي بالعازف الصغير: " أهلا بك يا أستراليا الصغيرة". ولم يفهم الطفل قصدها , فتابعت ضاحكة: " هل أنت آت من المزرعة؟". أجابتها عيناه المعبرتان حتى قبل أن يتفوه بكلمة واحدة : " نعم يا آنسة , أنا الساعد الأيمن للسيد الكبير ". " حقا؟". سألت كولبي بأهتمام , فلم يبد عليه أي أنزعاج من نبرتها المداعبة: " نعم , أسمي بوكا , وأنا ساعد السيد دارت الأيمن". وأبتسمت كولبي لهذا الكائن الصغير , الذي تحمل طفولته النحاسية كل قدم القارة الأسترالية ولمعت عيناها الخضراوان فرحا باللقاء: " كم عمرك يا بوكا , سبعة ... ثمانية أعوام؟". " أكثر من ذلك يا آنسة ". وفتح ذراعين ليدل بحركة طفولية عن حقيقة عمره , وعندما أطمأن أخيرا الى كولبي جلس قربها على الصخرة فأبتعدت لتفسح له مجالا أكبر. " االمكان رائع هنا , أليس كذلك يا بوكا؟". هز رأسه أيجابا , وتسلل شعاع الشمس بينهما , وركض الى النهر ليحوله الى شريط متعرج من الذهب , فوقهما كانت الطيور تثرثر بصوت عال , وكأن لديها الكثير من الأخبار تود أن ترويها قبل حلول الظلام. " بوكا , هل تعرف ما هو أسم تلك الأسماك؟". ودلت على الأسماك الشفافة اللون التي كانت تسبح بين حصى النهر : " هس ! لا تتكلمي!". رفع يده محذرا: " سأنادي أحداها لتصعد الى السطح". وأنحنى على النهر , فتقلصت عضلاته , تحت بشرته الحريرية , وبطرف أصبعه الصغير صار يرسم دوائر تصغر حلقتها تدريجيا ,وفجأة صعدت سمكة الى السطح بحركة صغيرة سريعة وكأنها متلهفة لمعرفة ما يريده الصبي الصغير منها: " هذا رائع يا بوكا , كيف فعلت ذلك؟". ورفعت قبعتها لتنظر اليه مليا , وألتفت بوكا ليبتسم لها , فأتسعت عيناه فجأة وكأنه رأى شيئا مخيفا , ووقف في مكانه جامدا للحظات , قبل أن يفر هاربا . المفاجأة سمرت كولبي في مكانها فلم تنطق بكلمة واحدة لتوقف بوكا الذي كان يصرخ : " أنها لعنة الشمس". لم تعرف ما أخافه لهذه الدرجة , ولم تجد أي تفسير معقول لتصرفه فللمواطنين الأصليين الكثير من التقاليد الغريبة ,وهم يؤمنون بأن الطبيعة تلعن من يجرؤ على تحديها , وشعرت كولبي بالأعشاب ترتجف قرب قدميها فأخفضت بصرها لترى سلحفاة كبيرة تتنزه في أتجاه ضفة النهر وظهرها يلمع بألف لون ولون , وأحتوت الطبيعة كولبي مجددا في أحضانها , فنسيت بوكا وقصتها معه. كانت الساعة تجاوزت السابعة عندما شرعت كولبي بالعودة الى المنزل , وعلى بعد أمتار من البيت الكبير رأت فارسا مقبلا نحوهال كان دارت. حتى وهو منتصب على صهوة جواده , كانت تنبع مه قوة قيادية , يشعر بها العامل معه عن بعد ويطيعها. وقفت كولبي في مكانها تتأمل الفارس والحيوان , الجواد يبدو رائعا , أسود اللون حريري البريق , ذيله ورأسه يلمعان بلون الفضة , أما الرقبة فطويلة ومعتدة , والقوائم رقيقة وقوية , والكتفان صلبتان كل ما فيه ينم عن أصالة مميزة. توقف دارت قربها , وبدون أن يتفوه بكلمة أنحنى برشاقة ليلتقطها بين ذراعيه ويضعها امامه , وهمس لها ضاحكا: " عدت الى ألاعيبك القديمة , أليس كذلك يا أبنة العم؟". " أتعني تسللي المبكر خارج المنزل؟". " نعم , كنت أبحث عنك , لاحظت أنك تركت نافذتك مفتوحة ألا تستعملين الدرج أبدا ؟ سيكون لي حديث قصير معك يا عزيزتي , بعد الأفطار , علي أن أحد من بعض أساليب لهوك يا صغيرتي". " لا يا عزيزي , ليس الآن , كنت بدأت أستمتع بوقتي". ضحك ولم يعلق بشيء , أخذ يربت على ظهر الجواد ليشجعه على صعود التلة الصغيرة . " كم هو جميل هذا الجواد يا دارت". وأخذت تربت على رقبته البراقة: " طبعا هو رائع , هذا جواد أصيل , ومن سلالة أصيلة". " أعرف أنك كنت دائما تحب كل ما له شخصية مميزة ومستقلة يصعب السيطرة عليها ". وصهل الجواد معتدا بنفسه , وكأنه يتابع الحديث الدائر بينهما , وضحك دارت مبعثرا بأنفاسه خصلة رقيقة من شعرها تطايرت قرب أنفه. " ولذا أحب أبنة عمي الصغيرة كولبي". ورفعت كولبي رأسها لتتأمل وجهه الأسمر الجذاب , قبعته العريضة كانت تضفي تلألأ داكنة على عينيه الواسعتين وتبرز شبح أبتسامة أخذت تتلاعب على زاوية فمه المرسوم بدقة. " أنت وسيم جدا يا دارت". قالتها ببراءة يناقضها بريق الشقاوة في عينيها , وأتسعت أبتسامته : علق قائلا: " لا تظني بأنك تستطيعين التوصل الى مبتغاك عن طريق المدح". " كنت أعرف أنني لا بد وأن أجد الطريقة المثلى للتعامل معك ". وكادت تسمع الأبتسامة في صوته عندما علق قائلا: " كنت أعتقد أن العكس هو الصحيح". وشد اللجام بين يديه , فأسرع الجواد يشق طريقه بثقة بين تلال الرمل : " لا بد أن روشيل تراك شديد الجاذبية ". " نعم, لكن هذا الأمر لا يعني الفتيات الصغيرات". " حسنا , لن أتكلم في هذا الموضوع بعد الآن". وعادت لتغرق في جمال الصباح , وجسمها يتأرجح مع أختلاجات الجواد الذي كان يسابق الريح , وأنتهى الحلم بوصولهما الى البيت الكبير , ربط دارت الحصان في الأسطبل , وألتفت ليساعد كولبي على النزول. " أما أنك أزددت وزنا , أو أنني أصبحت أكثر ضعفا". وتألقت عينا كولبي تأثرا: " حقا كانت نزهة ممتعة". نظر اليها دارت بحنان: " لم تتغيري يا أبنة عمي العزيزة , ما زلت كما الأمس". " بأنفعالاتي ربما , لكنني لم أعد طفلة يا دارت , أصبحت شابة ناضجة ". " لا يزال أمامك بعد طريق طويل للنضج". وأنزعجت كولبي من الكلمات , لكنها تذكرت فجأة بوكا وتصرفه الغريب , كان دارت قد أنصرف ليتحدث الى أحد عمال المزرعة فأنتظرت بصبر عودته اليها ,وبعد دقائق عاد ليصطحبها الى المنزل. " دارت ألتقيت اليوم قرب النهر أغرب طفل رأيته في حياتي , قال أنه ساعدك الأيمن". " لا بد أنك تعنين بوكا , شخصية مميزة فعلا , أنه حفيد بن". "خاف مني , لا تسلني لماذا , كنا نتحدث بهدوء , وفجأة فر هاربا كأنه رأى أمرا مرعبا". " غريب , ماذا قلت له , هذه القصة تناقض طبيعة بوكا". " لم أقل له شيئا ,كنا نتفرج على سمكة صغيرة , ألتفت ليبتسم لي , وفجأة صرخ بخوف , وفر يردد : (لعنة الشمس)". تأملها دارت للحظات , قبل أن يرفع قبعتها عن رأسها ليراقب بريق الشمس على خصلاتها النارية. " أعتقد أنني وجدت مفتاح اللغز". أمسك بيدها , وقادها الى داخل المنزل , توقف برهة في الردهة وأكمل طريقه الى غرفة الجلوس , والى المرآة الكبيرة في الصدر , حيث ألقت الشمس بكل ثقلها على الأطار الذهبي. " تعالي كولبي ,أنظري الى نفسك في المرآة". وأقتربت كولبي من المرآة لتحدق في صورتها المنعكسة فيها : "ما الأمر يا دارت , لا أرى شيئا يلفت النظر". " بوكا رآه , وأنا لا ألومه , لون شعرك يلفت النظر في أي مكان , أما الصغير بوكا فأعتبره نوعا من السحر خاصا بالنساء". مررت كولبي أصابعها في خصلاتها القصيرة: "لم أكن لأعرف وحدي أبدا". " كيف تفسرين مناداتي لك بعصفور الجنة". " لأنني غريبة الأطوار أحيانا , وما من أحد يستطيع أن يتوقع ما سأفعله بعد دقيقة". " هذا مزيج رائع يا صغيرتي". ويبدو أن مزاج دارت كان يميل الى المزاح في تلك اللحظة , لكن كولبي لم تكن بالهدوء الكافي لتدخل في معركة معه. " شكرا لأطرائك يا دارت هذا أذا كان ما قلته أطراء". " فلنكف عن هذا العبث الآن , هيا أذهبي الآن لتناول الطعام , وأعد بأنني سأجد لك فرسا ممتازة لنزهاتك اليومية". " على أن تكون مميزة الشخصية يا دارت , لا تنسى أنني فارسة ممتازة". " وكيف أنسى يا صغيرتي , صرفت ساعات طويلة لتلقينك أصول الفروسية ". " أعلم , لذا لا يمكنك الوثوق بأنني أستطيع السيطرة على الجوهرة السوداء". وضاقت نظراته منذرة بالغضب: " الجوهرة السوداء ! لا تقتربي منها يا كولبي , الفرس هذه نارية الطباع رأيتها في لحظات غضبها تلقي عن ظهرها بستة رجال , فتاة صغيرة مثلك لن تستطيع السيطرة عليها , أمنعك منعا باتا من الأقتراب منها ". " ولكن يا دارت...". " كفى يا كولبي , لا أريد سماع كلمة أخرى في هذا الموضوع , لا أريد حادثة أخرى في هذه المزرعة , أبتعدي عنها , هل سمعت؟". " نعم , حسنا , دارت , أهدأ قليلا لاحاجة بك الى التهديد , رغباتك أوامر , الأمر في غاية البساطة , سأتقبل هزائمي على يديك بنظرة فلسفية". " آه لو كان ما تقولين صحيحا". ولم تجبه كولبي , بل تركته لتذهب الى غرفة الطعام , كان ستيفن وسوزان , قد شرعا في تناول طعام الفطور. " صباح الخير يا ذات العينين الخضراوين ". بادرها ستيفن: " صباح الخير ستيفن , صباح الخير سوزان". وأبتسمت كولبي لسوزان وهي تضع بعض البيض في صحنها , فأجابتها هذه الأخيرة وهي تحاول أن تبدو أكثر رقة: " أستيقظت باكرا هذا الصباح يا كولبي". " يبدو أن الجميع لاحظوا ذلك , دارت ألقى عليّ محاضرته الصباحية منذ برهة". ودخل دارت الغرفة , وسمع ملاحظتها الأخيرة , فعلق ضاحكا: " لم أبدأ بعد يا كولبي ". وتجاهلته كولبي متوجهة الى الأثنين الأخرين : "هل هو هكذا دائم العنجهية واللامبالاة السيد المستبد الذي يفرض سيطرته على الجميع؟". وضحك دارت بدون أن يظهر عليه أي أنزعاج من وصفها القاسي له وأسترقت النظر الى وجهه فرأته هادئا مع لمسة ساخرة تعرفها جيدا : " الحمد لله أنني أنتهيت تقريبا من تناول أفطاري". قالتها لتخفي أضطرابها العابر , فعيناه كانتا تخترقانها حتى الأعماق: " هل تريد فنجانا من القهوة؟". أومأ دارت موافقا وألتفت الى ستيفن الذي كان يراقبهما بأستغراب فأن أحدا لم يكن يجرؤ على التحدث الى دارت بنبرة الصوت التي خاطبته بها كولبي. " ستيفن , الطبيب البيطري سيأتي الى المزرعة بعد ظهر اليوم , العجول بحاجة الى تلقيح , أريد أن تساعد ماغاني , علينا أن نجمع حوال ثمانمئة رأس في مكان واحد , أهتم بهذا الأمر كشاب طيب". " أعتبر أن الأمر قد نفذ ما دمت لاتطلب الي دمغها بالنار , أكره رؤيتها مستلقية أرضا تستقبل الحديد الحار بدون تذمر , لا أستطيع تحمل ذلك". " سأجعل منك في يوم من الأيام , راعي بقر قديرا ". وأنصرف دارت لتناول القهوة التي قدمتها له كولبي وهي تسأل: " هل أستطيع مرافقتكما؟". قطب دارت حاجبيه قبل أن يقول: " سيغطيك الغبار !سوزان مثلا لا تحب ذلك". " أنا لا يخيفني الغبار , سأغطي شعري بمنديل". " لا أعرف , سأفكر بالأمر". " العمل هو للرجال فقط , أما النساء فعليهن البقاء في المنزل , أليس كذلك يا دارت؟". " شيء من هذا القبيل يا كولبي العزيزة ". أنتهى من تناول القهوة , وغادر الغرفة فلحقت به كولبي وقالت بأصرار : " ما هو القرار يا حضرة الرئيس ؟". نظرته جعلتها تشعر بالتردد: " أنت مصرة على المجيء معنا , أليس كذلك؟ هذا عمل صعب حتى للمتفرجين , أنه عالم للرجال فقط يا كولبي الصغيرة". " لماذا لا تتابع قائلا : " والحمد لله!". كانت تعرف بفطرتها الأنثوية كيف تصل الى مبتغاها بطرق ملتوية: " حسنا هذا عالم للرجال فقط والحمد لله". " أذا لا يسمح للنساء بدخوله". ونظرت مباشرة الى عينيه الرماديتين المليئتين رجولة ,وبدا عليه التردد: " نعم غير مسموح , لكنني قد أستثني فتاة صغيرة أعرفها لو وعدتني بألا تزعجيني , وتتدخلي في أعمالي , فتكتفي بالمراقبة عن بعد". وشكرته بأبتسامة بريئة فيها شيء من الأنتصار: " شكرا دارت أعدك بالبقاء هادئة". " حسنا , نفذي وعدك , وألا...". ربما كان تأثير الظلال , لكن كولبي رأت على وجهه أنطباعا قاسيا : " أعرف أنك تعني ذلك يا دارت". وفجأة شعرت بأنه يفوقها طولا وقوة , وأمسك معصمها بقسوة : " أردت أن أحذرك يا ذات العينين الخضراوين". وحررت كولبي نفسها من قبضته : " هذا عدل يا دارت". وقاطعهما صوت ستيفن الذي لحق بهما الى الشرفة: " هل رأت كولبي فرسها؟". " لا, لم ترها بعد , تعالي معي الى الأسطبل يا كولبي ". ولحقت به كولبي متلهفة ووراءها ستيفن: " ستعجبك يا كولبي , أنها فرس رائعة ". " كفى يا ستيفن, أفسدت المفاجأة , دع كولبي تراها أولا". وفي الطريق ألتقوا بوكا , فأستوقفه دارت قائلا: " تعال هنا يا بوكا , أريد التحدث اليك". وألتفت دارت الى كولبي وممر أصابعه في خصلاتها الحمراء: " هذه أبنة عمي يا بوكا , الفتاة التي أخبرتك عنها أريدك أن تبقى ساهرا على سلامتها يا مساعدي المفضل". وسجن دارت بين أصابعه خصلة من شعر كولبي , التي جمدت مكانها بدون حراك وتابع قائلا: " والدتها سرحت شعرها بشعاع شمس , هل تفهم الآن؟". " نعم , سحر النساء , أليس كذلك؟". " شيء من هذا القبيل , أذهب الآن ". وأبتعد بوكا مسرعا تلاحقه أبتسامة دارت: " حسنا فلنتابع طريقنا الآن الى الأسطبل". ومشوا بصمت حتى وصلوا الى هدفهم : " أنتظري هنا يا كولبي". أمر دارت , وأختفى داخل الأسطبل , ليخرج منه بعد قليل بفرس رائعة , لم تصدق كولبي بصرها , فالفرس البنية اللون أمامها كانت جميلة فعلا بعينيها المشتعلتين شررا , وقوائمها الرقيقة العصبية التي بدت لخفتها كأنها لا تطأ الأرض. " قولوا لي أنني لا أحلم! هل حقا ستعطيني هذه الفرس يا دارت؟". أنحنى دارت برشاقة وهو يقول: " أنها لك وحدك يا كولبي , مفاجآت كهذه تجعل الحياة مثيرة ". وأبتسمت له بحرارة , كانت سعادتها واضحة : " شكرا لك يا دارت ,كم أنت طيب , أعتقد بأننا سنصبح صديقين". " يا له من أقتراح مفاجىء". " أعني ما أقول ". ووقفا على جانبي الفرس يربتان على ظهرها : " ما أسمها يا دارت؟". " سورشا , أبنة الشمس ". وراقبت كولبي أنعكاس الشمس على الجسم الطري , الذي تحول لونه البني الى شعلة ذهبية , وهزت رأسها سرورا. " ما من حاجة لأن أسألك أذا كانت الفرس أعجبتك!". قال ستيفن وهو يستمتع بمراقبة الفرس والفتاة , كانتا تليقان ببعضهما , كلاهما تنحدر من سلالة أصيلة , وكلاهما تعتد بنفسها . وشعرت كولبي بنظرة دارت ترتاح عليها فألتفتت اليه قائلة بأبتسامة طفولية رقيقة: " شكرا يا دارت , سأعاملها كأميرة". " أعرف يا صغيرتي , ولذا أعطيتك أياها , أذهبي الآن الى بيللا , أنها تحتاج الى المساعدة هذه الأيام". كان واضحا أنه يريد صرفها , فأبتعدت مبتسمة وهي تلوح له بيدها , وكان آخر ما رأته صورة دارت وستيفن يتوجهان معا الى مقر رعاة البقر في المزرعة. ومر ما تبقى من الصباح بسرعة , أمضت كولبي ساعة في فك وترتيب حقائبها , ثم نزلت الى الحديقة لتساعد بيللا وسوزان في زرع أزهار جديدة , صحيح أن بيللا كانت تستعين بعدد من العمال الوطنيين للأعتناءبالحدائق الشاسعة ألا أنها كانت تصر على القيام وحدها بزرع النباتات الطرية ,والأشراف على الأعمال الأخرى. وهذا الصباح كانت بيللا منهمكة في زرع نوع جديد من البنفسج المداري وجدته قرب سفح أحدى تلال الرمل على بعد عدة أميال من الزرعة. حرارة الشمس , وعطر الهواء جعلا سوزان تبدو أكثر ودا , فمضى الوقت سريعا , بينما كانت بيللا تعطي تعليماتها للفتاتين عن أصول العمل , وكيفية غرس البذور. وبعد الغداء ,أرتدت كولبي سروالا مريحا وقميصا أحمر اللون ,وجلست تنتظر أن يناديها دارت , ولم تنسى أخراج منديلها الحريري الأبيض والأصفر ,ففي هذه المنطقة يعلق الغبار الأحمر حتى بالمساحات المصقولة الملساء. كانت الساعة تجاوزت الثانية عندما وصل الطبيب البيطري أخيرا الى المزرعة , قيل لها أنه سيمضي الليل في كنغارا , وهامت كولبي في أرجاء المنزل , بدون هدف معين , كانت تخشى أن يعود دارت عن رأيه ويذهب بدونها . سمعت صوته في الحديقة , فوقفت قرب النافذة لتراقبه عن بعد ,كان يتحدث الى الطبيب البيطري , ورجل آخر لم تره من قبل , وحاولت كولبي أن تنظر الى ملامح دارت بموضوعية لكن الأمر كان مستحيلا , فهو مقرب جدا الى قلبها ويستأثر بجزء مهم من عواطفها ,وأحست أتجاهه بمزيج متناقض من المشاعر لم تستطع أن تتبين معناها بعد. وأبتسمت كولبي لنفسها ,لم يكن دارت يتصرف فعلا كرعاة البقر أو كأصحاب المواشي , قامته الرشيقة , وأناقته الميزة , وحركاته العفوية , كانت كلها تشير الى جل ينحدر من عائلة أرستقراطية عريقة. وفجأة ألتفت دارت متوجها الى المنزل وهو ينادي بأسمها , فطارت كولبي الى الشرفة , وكادت تقع على الدرج وهي تسرع الى حيث كان ينتظرها. نظر اليها دارت بمزيج من الحنان والمداعبة وقال: " كنت أعلم أنك ستلبين النداء بسرعة , لكنني لم أتوقع أنقضاضك علي كالسهم ". " هل فعلا جئت بهذه السرعة؟". سؤالها كان فيه شيء من التحدي , وأمام بريق عينيها , والحمرة الخفيفة التي لونت خديها , قرر دارت الأستسلام حتى قبل دخول المعركة. " تعرفين فرانك كينيدي أليس كذلك يا كولبي؟". أبتسمت كولبي وهي تمد يدها مرحبة بالطبيب , لم تنسه , كان غالبا ما يزور المزرعة في الأيام الغابرة وبادلها الطبيب أبتسامتها : " أنا سعيد جدا بعودتك الينا , يا آنسة أليني , يا آنسة كولبي , وأسمحي لي بأن أقول لك أن الأيام حولتك الى شابة جميلة فعلا". " أسمح لك بقول ذلك يا دكتور فرانك". " كف عن أطرائها يا فرانك’ ستدير رأسها , وستصاب بالغرور ولن نتمكن من السيطرة عليها بعد ذلك". ألتفت دارت الى الرجل الآخر قائلا: " كولبي , أعرفك بمايك فراداي هذا رجل لكل المهام ولكل الفصول ". أطالت كولبي النظر الى الرجل الواقف أمامها , فرأته طويل القامة , متناسق التقاطيع ,فاتح الشعر , يقارب عمره سن دارت أي أنه يبدو في أوائل الثلاثينات , وأستراحت عيناه البنيتان على كولبي بتعبير فيه الكثير من الأهتمام. " أنا سعيد بمعرفتك يا آنسة كينغ , دارت كلمني كثيرا عنك". وكان لصوته رنة خفيفة وعذبة , وألتفتت كولبي الى دارت فوجدته أبتعد عنها ليفتح باب السيارة الكبيرة المتوقفة على بعد أمتار قليلة. " هيا يا كولبي , أصعدي , حان وقت الذهاب". جلس الرجال في المقعد الخلفي , وأستراحت كولبي قرب دارت الذي أنطلق بالسيارة مسرعا صوب حظائر الماشية , وعند وصولهم كان رعاة البقر يأتون بالقطعان الى الأماكن المسيجة التي أنشئت خصيصا لجمعها وكان العمال قد أمضوا يومين كاملين يجوبون أراضي كينغ الشاسعة بحثا عن القطعان , لفصل الحيوانات المحتاجة الى تطعيم ودمغ , كان هناك حوال ثلاثة آلاف رأس من الماشية مجتمعة في الحظيرة المؤقتة تتراوح أعمارهما بين يوم وشهر , وكلها برفقة أمهاتها. وغطّت هالة من الغبار الأحمر المكان , الرجال كانوا يرتدون ثياب رعاة البقر التقليدية ,وهي تشابه كثيرا أزياء رعاة بقر ولاية تكساس الأميركية , قبعة عريضة تقي عيونهم من حدة الشمس وسروال جلدي ضيق , ومنديل حول العنق , وجزمة عالية من جلد العجل , وقميص مزين بمربعات فاتحة اللون , وحزام عريض من الجلد , وفي المناسبات الخاصة كان الرجال يستبدلون القميص فقط بآخر من الحرير المطرز برسوم زاهية. في الغرب كان الرجال يبدون أكثر طولا ورشاقة , وأعرض أكتافا من زملائهم في المدن , وكذلك تبدو وجوههم أكثر رجولة وقوة... ورأت كولبي حوال أربعة عشر رجلا من رعاة البقر يتحلقون حول الحظائر للسيطرة على المواشي التي بدأت تظهر عصبيتها. أوقف دارت السيارة , فخرج منها أولا مايك والطبيب وأتجها الى الحظيرة الأولى , ربطت كولبي المنديل حول رأسها وهمت باللحاق بهما فأوقفها دارت: " مهلا يا ذات الخصلات النارية , حقا أنت أنثى عنيدة , قلت لك أنني أسمح لك بمشاهدة ما يحدث عن بعد". " أين تريدني أن أقف بالتحديد". ورسم دارت بيده خطا وهميا . " قرب السيارة , لا تقتربي أكثر من ذلك , بعض الثيران في القطيع قد تكون خطرة ,هل من أسئلة أخرى؟". " لا يا دارت". " حسنا". وأبتعد عنها ليتحدث الى الرجال , فأختارت كولبي مكانا ظليلا تقف تحته , الحر أشتدت وطأته , خلعت قبعتها ووضعت نظارتين داكنتين على عينيها , الشمس بدت أكثر أحتراقا في السماء الصافية , والتلال أنتصبت بقساوة أكثر طوال خط الأفق , أما الغبار فتراكم كثيفا على كل الوجوه . على بعد أمتار قليلة منها , رأت كولبي ستيفن بقميصه الأزرق الفاتح , يتحدث الى أحد الشبان الأصليين , عرفته برغم المنديل الذي غطى نصف وجهه لحماية رئتيه من تنشق الغبار الخانق. وبدأ عمال المزرعة بطرح العجول أرضا لدمغها بحرف (ك) وسكتت فجأة همهمة القطيع , وكأنه شعر بتهديد الحديد الساخن الذي سينهال بعد لحظات على جلده , وكانت كولبي تشارك ستيفن نفوره من هذا الأجراء الضروري لحصر رؤوس الماشية الخاصة بمقاطعة كينغ فأبعدت نظرها عن القضبان المشتعلة التي تضع دوائر صغيرة على العجول الخانقة ,لتراقب الطبيب المنهمك في تطعيم الحيوانات الأخرى التي عرفت طعم النار قبل سنوات , وراحت تنظر بحنان الى صغارها. بعد ساعة من العمل الشاق ألتف الرجال على نداء طباخ المزرعة وهو صيني من مقاطعة كانتون , كان طاهيا ماهرا , والمسؤول عن تأمين المؤونة الغذائية للبيت الكبير ومقر العمال . جلس على جذع شجرة كبيرة , وعلى وجهه المرح الصغير أبتسامة مميزة لا يراها المرء الا على وجوه الشرقيين , وتذكرت كولبي كم كانت تستمتع برفقته المسلية وهي طفلة , كان صديقا لكل أطفال المزرعة , ومشت كولبي اليه وهي تحاول أن تتجنب غيوم الغبار المتراكم في الجو. " مرحبا يا لي , كم أنا سعيدة برؤيتك مجددا". " وأنا كذلك يا آنستي". وقفز من مكانه لينحني لها بأحترام , صوته ما زال فيه تلك الرنة الغنائية القديمة , وأشارت كولبي بأصبعها الى قالب كبير من الحلوى: " ما أشهى مظهره". ولم تكد تنهي كلماتها حتى أمسك الصيني بسكينة ليقطع لها جزءا كبيرا منه : " هذه القطعة لك وحدك يا آنستي , هؤلاء الرجال لا يشعرون بالسعادة الا أذا أطعمتهم حتى هنا". وأشار بيده الى نقطة وهمية فوق رأسه. " " أنتظري يا آنستي , سأهب لك فنجانا من الشاي , كنت أعرف أنك ستأتين اليوم , ولذا أحضرت لك كوبا جميلا من الزجاج الصيني". " شكرا لألتفاتتك الطيبة". وأنحنى لها مجددا , فبادلته كولبي الأنحناء مبتسمة , وعادت الى مكانها الظليل , الرجال ما زالوا يتوافدون الى عربة الطباخ , فتوقعت أن يلحق بهم دارت ليستريح برهة , ألا أنه تابع عمله الى جانب الطبيب. وتناولت كولبي كوب الشاي ببطء , وعندما فرغت منه , وقفت لتعيده الى الطباخ ,رفع العمال قبعاتهم تحية لها عندما مرت مبتسمة قريبا منهم , كان من النادر وجود أمرأة في مكان كهذا , وحررت كولبي خصلات شعرها من المنديل , كان الجو شديد الحرارة. ولم يتوقع أحد ما حدث بعد ذلك , ماغاني , وتد أيفانز كانا يحاولان السيطرة على ثور كبير لكنه تمكن من الفرار من قبضتهما وفي عينيه الصغيرتين تهديد بالأنتقام من معاملة الأنسان , وأتجه الثور الغاضب نحو الفتاة , التي بدأ شعرها المكشوف وكأنه شعلة من نار , الرجال كلهم تحركوا في الوقت ذاته, فسقطت أكواب الشاي , وتبعثرت قطع الحلوى , وأمتدت الأيدي الى الأسواط في محاولة يائسة لتجنب الكارثة . جمدت كولبي مكانها والخوف يشلها , ورفضت ساقاها التحرك , وكان دارت أول من تمكن من الوصول اليها بسرعة , حماها بجسمه ودفعها بعيدا عن طريق الحيوان الهائج , وسقطت وجرحت ركبتها. أندفع الثور نحوها والشرر يتطاير من عينيه , وأحست كولبي بالرعب يعصر معدتها , أصبح دارت في خطر حقيقي , وجهه القوي بدا صلبا كالصخر , وتقلصت عضلات جسمه أستعدادا للمعركة , الرجال كلهم جمدوا في مكانهم وبدا وكأن أحدا منهم لا يجرؤ حتى على التنفس , فالثور كان قريبا لدرجة لا يمكن معها تجنب الهجوم , ولذا كان لا بد من المجابهة , ثبت دارت قدميه في الأرض وبيديه القويتين أمسك بذيل الحيوان فور أقترابه منه وقبل أن يستعد الثور لمجابهة التحدي , كان دارت قد تمكن من أخلال توازنه , فسقط أرضا وفي أنفاسه المتلاحقة مزيج من الغضب والخوف , وأسرع الرجال من كل صوب للسيطرة عليه , وربط قوائمه الأربع. نظرت كولبي الى دارت , فرأت قميصه الممزق ملطخا بالدماء عند الكتف , أستطاع الثور أن يطعنه أذا قبل أن يسقط أرضا , وأغلقت كولبي عينيها بسرعة وهي تشعر بالغثيان , ترنحن وكادت تسقط لولا أن أسرع مايك فاراداي الى جانبها ليساعدها على الوقوف . " هل أنت بخير يا كولبي؟". نسي أن يدعوها بالآنسة كينغ , الألقاب في تلك اللحظة لم يكن لها أي معنى , ولاحظت كولبي رغم توترها أختفاء طابع اللامبالاة عن وجهه أذ دل على شحوبه الواضح على الخوف الذذ عرفه الجميع قبل دقائق. " كانت دقائق مرعبة فعلا يا كولبي , شكرا لله أن دارت من أمهر رعاة البقر , ما قام به يتطلب جرأة فائقة". وسمعت كولبي الكلمات بدون أن تفهم معناها , ففي ذهنها لم تكن تر ألا قميص دارت الملطخ بالدماء ,ذهبت اليه , وهي تحاول السيطرة على الدموع التي بدأت تحرق عينيها , كان الطبيب يكشف على الجرح. " عليّ بتنظيف الجرح الآن ا دارت". أمسكت كولبي بيد دارت وأرتجفت شفتاها تأثرا: " آسفة يا دارت الحق عليّ في ما جرى". " أعرف يا عزيزتي , هذا يؤكد لي أن الناريات الشعر لا يختلفن فعلا عن غيرهن , بل ربما كن أيضا أكثر تسببا للمشاكل". وجالت عيناه على وجهها الطفولي , وأستقرتا أخيرا على فمها الحزين الذي فقد آخر أثر للمرح والشقاوة , رفعت كولبي بأضطراب خصلات الشعر المتهدلة على جبينها: " هل تتألم يا دارت؟ لن أسامح نفسي أبدا على ما حدث؟". ونمت عنه صرخة ألم وتقلصت كتفاه , فكادت كولبي تبكي خوفا عليه وهو الطبيب رأسه مؤنبا دارت: " لا تخافي يا آنسة كولبي , دارت يمزح معك , رجل بصلابته يحتاج الى أكثر من قرن ثور ليبقى في الفراش , لا تخشي شيئا سيتعافى بسرعة". " لكنه ينزف بشدة يا دكتور , دارت أرجوك قل لي شيئا أي شيء". " ما بك , هل تعتقدين بأنني سأموت قريبا! لن تفلتي مني بهذه السهولة يا عزيزتي". وعادت أبتسامته المداعبة تتراقص على شفتيه , تنفست كولبي بعمق وأرتمت أرضا بجانبه , فأحتواها بذراعه القوية , وشدها قريبا من صدره . " أهدأي يا صغيرتي , كل شيء سيكون على ما يرام ". وتركها تستريح قربه بضع دقائق , ثم أبعدها عنه بحزم: " هيا أذهبي الآن , لا تستفزي حظك أكثر من ذلك , مايك سيعيدك الى المنزل". " أعتقد أنه من غير المجدي أن أقترح عليك العودة معي , لتنظيف الجرح؟". " لا , سأبقى هنا , فرانك سيعتني بي". ولاحظ دارت للمرة الأولى الدموع الحبيسة في عينيها , والتي تحاول كولبي جاهدة منعها من السقوط. " كنت أعتقد أن أفراد عائلة كينغ يستطيعون السيطرة على أنفعالاتهم أكثر من ذلك". ربما كنت أستثناء للقاعدة ". " لا يا عزيزتي , كنت دائما مميزة الشخصية , وأعتقد أنني مجبر على تقبلك كما أنت". أسترقت كولبي نظرة الى وجهه , فلم تستطع أن تتبين ملامحه تحت القبعة العريضة : " كل ما أستطيع قوله يا دارت , هو أنني آسفة". " حسنا , على الأقل تعترفين بخطأك". وقاطعهما صوت مايك فاراداي قائلا: " أنا بأنتظارك يا آنسة كينغ ". " شكرا يا سيد فاراداي". ونهض دارت من مكانه ليرافقها الى السيارة , وما أن أستقرت كولبي في مقعدها حتى صفق وراءها باب السيارة بعنف. " أذهب بها الآن يا مايك". قالها بقسوة , وأنصرف عنهما مسرعا , أغمضت كولبي عينيها وساد الصمت بضع دقائق قبل أن يقطعه مايك قائلا: " لا تدعي الحادث يؤثر عليك يا آنسة كينغ , كان من الممكن أن يحل الشيء ذاته لأي كان ". " لكنه لم يحدث لأي كان كان عمي سيروس يقول دائما : النساء هن الديناميت المفجر لكل سوء يحصل". " هذا تهرب من الحقيقة". وأسترق مايك نظرة سريعة اليها , وعاد ليحدق في الطريق الممتدة أمامه , أبنة عم دارت لم تكن كما تصورها , كان يتوقع فتاة طويلة القامة عادية الجمال , لا هذه الأنثى الرقيقة الجسم , الجذابة الملامح , النارية الشعر. " كم أتمنى لو لم يحدث ما جرى". لم تستطع كولبي أبعاد ذهنها عن الموضوع , فنظر اليها مايك بجدية قائلا: " أنسي الأمر يا كولبي ...هل تسمحين لي بأن أدعوك بأسمك الأول , بفمك الصغير المرتجف , لا تبدين ناضجة بما فيه الكفاية لحمل لقب الآنسة كينغ". وسيطرت كولبي فورا على أرتجاف فمها , ورفعت كتفيها بأعتداد قائلة : " أعتقد بأنك ستكتشف أنني أستطيع أن أكون الآنسة كينغ عندما تتطلب الظروف ذلك". قالتها بتعال , وضحكت للنظرة الحائرة في عينيه. العشاء كان مرحا رغم أصابة دارت وشاركهم فيه الطبيب البيطري ومايك فاراداي. أنهمكت كولبي في مراقبة الوجوه الستة. سوزان كانت منشغلة بما يقول لها مايك فاراداي , بينما كان دارت والطبيب يتحدثان عن شؤون المزرعة وتشاركهما بيللا بين حين وآخر بتعليق يدل على سعة أطلاعها وخبرتها في هذا المجال , أما ستيفن فكان يستمتع بطعامه بحماس الفتى الذي لا هم له ألا أن يكبر وألتفت ستيفن اليها فجأة : " هل أشتقت لي اليوم؟". " في اللحظة التي هجم علي الثور تساءلت عما كنت ستفعله أنت في مكاني؟". " لا بد أنني كنت سأصاب بالأغماء". وضحكا عاليا وشعرت كولبي بنظرة دارت تستريح عليها , كم يبدو وسيما هذا المساء حادث بعد الظهر لم يترك أي أثر عليه , وبدون سبب واضح عضت كولبي على شفتها السفلى , ما بها؟ لماذا الأضطراب؟ وكأن دارت أحس بالصراع الدائر في أعماقها فأبعد عينيه عنها مبتسما , ليصغي الى حديث العمة بيللا وأخذت كولبي ترسم بأصبعها دوائر وهمية على مفرش الطاولة وهي لا تفهم سر تسارع نبضات قلبها. طبيعتها البريئة المتفتحة على الحياة , طرأ عليها تغيير مفاجىء تلمسه من خلال الأحاسيس المتناقضة في أعماقها , وأحست بالخوف منه وأيضا من نفسها , فهي لا تريد الغوص الى أعماق هذه العلاقة الجديدة التي تدفعها بعيدا عن عالم طفولتها أنها أكيدة من أمر واحد فقط , وهو أن دارت يريدها أبنة عم رقيقة وناعمة , لا تسبب له أي مشكلة , وفي الأشهر السبعة المتبقية من وصايته عليها , ستحرص كولبي على البقاء كما يريدها. " أحذرك بأنني لن أسمح لك بتجاهلي الى هذه الدرجة!". كان ستيفن يحاول جاهدا لفت أنتباهها. " ما بك؟ كنت تبدين وكأنك منهمكة في حل مشاكل العالم كله ". " ربما كنت أفعل ذلك فعلا , في الحقيقة كنت أتساءل عما يجب علي تناوله مع الحلوى". وضحكت كولبي فأنفرجت أسارير ستيفن , ضحكتها الخفيضة كانت تضج أنوثة وحيوية فهمس لها: " كولبي , ما رأيك بالفكرة التي سأطرحها عليك ؟". " فلنسمعها كلنا يا ستيفن". وألتفتت الوجوه كلها الى دارت الذي نطق بكلماته الأخيرة في نبرة جافة جعلت ستيفن يسرع بالأجابة: "كنت سأقترح عليها أفتتاح حلبة الرقص". وغرّدت كولبي ضاحكة: " يا لها من فكرة رائعة يا ستيفن , أعتقد أنني سأستمتع بالرقص لو وجدت فعلا الرفيق المناسب". " لن تتفوقي علي يا صغيرتي". وألتفت ستيفن الى شقيقته ومايك فاراداي. " وماذا عنكما؟". نهض مايك من مقعده ليساعد بيللا على الوقوف مبعدا بتهذيب كرسيها عن الطاولة ثم قال: " هيا أسبقني يا ستيفن , ضع الموسيقى المناسبة وسألحق بك". وغمزت كولبي سوزان قائلة: " الأقبال كبير علينا اليوم , هل تعتقدين أن السبب يعود الى النقص في عدد النساء". " لا يهمني السبب , سأستغل الظرف الحالي". وللمرة الأولى ترى كولبي عيني سوزان تتألقان فرحا , وشفتيها تتسعان في أبتسامة عريضة مشرقة. وأسرعت سوزان وراء شقيقها ستيفن , ليغرقا بعد لحظات في مناقشة حادة حول الألحان الصالحة للرقص , أما كولبي فتبعت دارت. " عزيزي دارت , آمل ألا تكون تضايقت من الفكرة". " لا يا طفلتي العزيزة , أفعلي ما يحلو لك طالما أتت في حدود المعقول". أبتسامته المداعبة دلت بوضوح على أنه يريد مداعبتها , فغيرت مجرى الحديث: " كيف تشعر الآن ؟". وعرفت كولبي أن الجواب لن يكون فيه أي أثر للجدية: " كيف ترينني؟". " تبدو أكثر أنسانية". وتعلقت عيناها بوجهه الرجولي , تبحثان عن سبب التغيّر الذي طرأ على علاقتهما , هذا الأحساس الجديد بالأضطراب والتوترلم تكن تعرفه من قبل. وساد صمت ثقيل بينهما , تابع فيه دارت مراقبة كولبي عن كثب فأنتفضت ساخرة: " ما بك , ألا تعجبك الفتيات الحمراوات الشعر؟". " أنا معجب بك أنت وحدك". كلماته خلت من السخرية , كان يتكلم بحنان: " ماذا حدث لنا يا دارت؟". " أنا لم أتغير , لكنني أعتقد بأنك تكبرين". " أنا لم أتغير , لكنني أعتقد بأنك تكبرين". " تقصد أن تقول أنك كبرت". " هل تعتقدين ذلك؟". لم تستطع كولبي أن تتحمل سخريته منها هذه المرة , فأبتعدت عنه غاضبة , ترن وراءها ضحكته الهازئة , تبا لك يا دارت ! يتعامل معها وكأنه السيد المطاع , كيف لم تلاحظ ذلك من قبل؟ وأرتاحت أسارير مايك فاراداي وهو يراها مقبلة نحوه , كمن هي رشيقة ورقيقة وأنثى! روشيل ستركهها من النظرة الأولى هذه المرأة لن تتنازل لأي كان , فهي من النوع الذي لا يسمح لأي كان ولأي شيء بالتدخل في مشاريعه , ودارتلاند كينغ كان من أحد مشاريعها ومعه كل الأراضي التابعة للعائلة. " تبدين رائعة يا آنسة كينغ". " شكرا يا سيد فاراداي , الأطراء موسيقى ناعمة تحب سماعها أي أمرأة... برغم أنني فهمت منذ قليل بأنني ما زلت في طور الطفولة ". أسترق مايك نظرة من فوق رأسها الى دارت ,وعلق ضاحكا: " أعتقد أن المرأة لا تصبح أمرأة فعلا ألا لدى أنجاب طفلها الأول". " أشك في ذلك يا سيد مايك , بعض أقرب الصديقات الي عوانس لكنني لا أشك بأنوثتهن لحظة". " فلندع الحديث جانيا , هل تسمحين لي بهذه الرقصة". كان ستيفن وسوزان يرقصان وسط الغرفة بدون حماس , وبأقتراب كولبي ومايك منهما صرخ ستيفن بأحتجاج مشيرا الى شقيقته: " لا يمكن أن يستمر الوضع على هذا الحال , أريد أن أغير شريكتي , مايك دع كولبي لي , وأرقص مع سوزان". وحاول مايك أن يخفي أنزعاجه , فسوزان في عمر صعب ,وما لم يكن مخطئا , يبدو أنها بدأت تتعلق به عاطفيا. ولم يكن مايك مخطئا , أشرق وجه سوزان حين لامستها ذراعاه , ولمعت عيناها فرحا لاحظت كولبي التغيير الذي طرأ على ملامح سوزان: " الحب لعبة قاسية يا ستيفن". " ما سبب هذه الملاحظة الآن؟". " سوزان , ربما ,لا أود أن أكون حشرية لكن هل هي ...". " لا أعتقد , أو على الأقل ليس في المرحلة الحالية , مايك يمشي على خطى دارت , أقصد أنه أيضا عازب لا يمكن الأيقاع به بسهولة , وأقناعه بالزواج , أنا لم ألتق حتى الآن برجل لديه قدرة الأكتفاء بالذات كالتي يملكها دارت , أنظري كيف صمد أمام كل محاولات روشيل التي أستخدمت حتى الآن كل خدعها األأنثوية للأيقاع به". " لا تكن قاسيا يا ستيفن , لا يمكن أن تكون روشيل بهذا السوء". " أحكمي بنفسك , لكنني أخاف أن تنشب أظافرها في وجهك , فأنت رقيقة وناعمة , و....". " لا تستعمل أساليبك الملتوية معي يا ستيفن , أنا محصنة ضد الرجال , على الأقل لخمسة أعوام مقبلة". " لا أصدق كلمة واحدة مما تقولين , فتاة جميلة مثلك لا بد أن تتزوج قريبا". ورنت أصداء كلماته الأخيرة في الغرفة , ومع أنتهاء لحن الأغنية فسمعها دارت وأقترب منهما: "من هي التي ستتزوج قريبا ؟ هل تخفي عنا كولبي شيئا يا ستيفن؟". " لا , كانت تقول بأنها لن تفكر في الزواج قبل خمس سنوات على الأقل". " وفقط أذا وجدت الشخص المناسب , لا تنسى أنها لن تستطيع الزواج ألا بموافقتي , فأنا سأبقى وصيا عليها لأكثر من أربعة أعوام". وبدون سبب محدد شعرت كولبي بسعادة غامرة , وفتحت ذراعيها لأبن عمها تداعبه قائلة: "هل تجد في نفسك القوة الكافية للرقص؟". ولم تتوقع أن يستجيب دارت لندائها , جرحه وحده كان كافيا لمنعه من الحركة , لكنه أطفأ سيكارته , نافخا دخانها الرمادي في الهواء , وتوجه الى كولبي , ليحتضنها بين ذراعيه , فيميلان معا على أيقاع الموسيقى. وقاد دارت خطوات كولبي برشاقة وليونة في الحركة , فتبعته طائعة وهي غارقة في ظل رجولته ,وللمرة الثالثة في تلك الأمسية تشعر كولبي بالتوتر والأضطراب بدون سبب معين. " أنت لست بالجودة التي كنت تدّعين قبل قليل!". تمتم دارت برقة وهو يشد قبضته عليها , فأبتعدت عنه , لم تتحمل كرامتها مزيدا من السخرية. " أعتقد أن طولك الفارع هو السبب يا دارت". ولم يرد عليها بل ألتفت الى بيللا ليرفعها عن مقعدها قبل أن تدرك ماذا يحدث. " يا ألهي دارت , أنا لم أرقص منذ زمن طويل". وضاع أحتجاجها في صخب الموسيقى , وتصفيق سوزان وستيفن اللذين وقفا قربها يشجعانها على الرقص ,ومرت السهرة في جو من المرح والأنطلاق , وعندما خفتت الألحان لاحظت كولبي لمحة ألم عابرة على وجه دارت فعلقت قائلة بسخرية: " أنت لست بالقوة التي كنت تدّعي قبل قليل!".
4- سطوة الوصي
*********************
ما كاد يمر يومان على عودتها من أحدى زياراتها الرسمية الى العاصمة , حتى كانت روشيل تينانت تدق باب كنغارا لم تأت لتفقد أصدقائها كما قالت , بل لتلقي نظرة على الآتية الجديدة , وكعادتها وصلت روشيل في وقت لم يكن يتوقع أحد حضورها , أي قبل موعد الغداء بقليل. كولبي لم تكن في المنزل , كانت تتجول وبوكا في أحضان الطبيعة , تأسرها رواياته عن أسرار النباتات والأرض والكائنات التي ترتبط بتقاليده ومعتقداته البدائية . وقفت كولبي بأحترام قرب بوكا الذي أختار بقعة محددة من الأرض أخذ يضربها بعصاه ليبرهن لكولبي أنه قادر على أيجاد الماء حيث يعجز الرجل الأبيض عن ذلك , لم تسمع الشابة أي صدى للعصا في الأحجار الرملية وعند الضربة الرابعة تفتت قسم من الحجر فتفجرت من تحته مياه حلوة نقية ,مد بوكا يديه وأخذ يشرب من المنهل العذب , أما كولبي فراحت ترطب بالرذاذ المنعش وجهها الذي لوحته حرارة الشمس . ثم قام بوكا بأخفاء المكان السري الذي أكتشفه وتركه تحت حماية الثعبان الكبير رمز المحاربين في قبيلة الكنغارا , فهذه المياه سرية ومقدسة ورثها عن أجداده , ودل وجه كولبي المنحني بجدية أنها تقدر الشرف العظيم الممنو لها . ومرت ساعة أخرى قبل عودتهما الى المنزل الكبير , توقف بوكا في الحديقة ليلهو قليلا بقسطل المياه يداعب به الزهور الملونة المتعطشة للمرح , وراقبته كولبي فترة قبل أن تقول له أنها ذاهبة لتناول طعام الغداء , وألتفت اليها مودعا ناسيا القسطل في يده , فغرقت كولبي تحت سيل من المياه المتدفقة ,ضحكت عاليا والماء يتساقط من شعرها وفستانها , وحاولت كولبي أن تتسلل الى المنزل من الدرج الخلفي , فلا يراها أحد وهي في هذا الوضع , لكن بيللا فاجأتها في اللحظة الأخيرة. " يا ألهي ما بك يا كولبي , هل سقطت بالنهر؟". " لا كنت ألهو وبوكا , فأغرقني في الماء بدون أنتباه". " يا له من قرد صغير". أنحنت بيللا على الشرفة وصفقت منادية بوكا , فأسترق اليها نظرة واحدة وفر هاربا خوفا من العقاب. " أرجوك يا عمتي بيللا , لم يقصد بوكا.........". وتوقفت عن الكلام عندما رأت سوزان التي خرجت من المنزل برفقة فتاة في منتصف العشرينات , أخذت تنظر الى كولبي بكثير من السخرية . ترددت بيللا لحظة , هل هذا هو الوقت المناسب فعلا لتقديم الفتاتين الى بعضهما ؟ كولبي تبدو كطفلة عابثة بفستانها المبلل , وبقطرات المياه تتساقط على جبينها وأنفها من المنديل الذي ربطت به رأسها على غرار القراصنة , سوزان بدت مستاءة فعلا من مظهر كولبي. " كولبي , يا ألهي , ماذا فعلت بنفسك ؟ روشيل جاءت لزيارتنا". " أهلا بها , آسفة , هل لي بدقائق قليلة أذهب فيها لأمسح هذه الشلالات الصغيرة عن وجهي لن أتأخر". وركضت الى غرفتها وهي تسمع صوت روشيل يرن وراءها ساخرا : " هذه هي أذا أبنة عم دارت". وبعد دقائق عادت كولبي الى غرفة الجلوس , فتاة مختلفة تماما , فستانها الأخضر جعلها تبدو كزهرة صحراوية برية , كانت روشيل تروي طرفة لجمهورها المتجاوب لكنها توقفت فجأة عند دخول كولبي لتعلق ضاحكة: "لم أعرف أنك حمراء الشعر". " أنت روشيل طبعا , أنا سعيدة لمعرفتك". " أخبريني يا آنسة كينغ عن السبب الذي دفع بك لأجتياز كل هذه المسافات ؟ لا بد أنك ستجدين المكان مملا بشكل مخيف ! ستشتاقين الى أضواء المدينة ووسائل اللهو المتوفرة هناك". أبتسمت لها كولبي ببراءة مصطنعة , وهي تجيبها مداعبة: " أعتقد أنني سأجد رجالا أكثر هنا يا روشيل ! أرجوك ناديني بكولبي , الجميع يفعلون ذلك". " أنت أنسانة صريحة جدا , أليس كذلك؟ لكن لم تجيبي عن سؤالي بعد". وهبت بيللا لمساعدة كولبي , ضايقها أن تخاطبها روشيل بهذا الأسلوب. " هذا كان بيت كولبي ,وسيبقى ما دامت ترغب في ذلك , بعض فتياتنا تجذبهن أضواء المدينة لفترة , لكنهن يعدن دائما الى الجذور , فلهذه المنطقة النائية سحر خاص بها , يأسر كل الذين عاشوا فيها وسواء أحبها المرء أم كرهها فلا بد أن يعود اليها". وتأثرت كولبي من محاولة بيللا ترطيب الأجواء , وتساءلت عن السبب الذي جعل سوزان تتعلق الى هذه الدرجة بصديقتها روشيل , لقد شعرت بغريزتها الأنثوية أن هذا النوع من النساء لن يكون أبدا صادقا مع واحدة من بنات جنسه. كانت روشيل تتمتع بجمال أخاذ , شعرها الأسود المتموج الخصلات سرحته بعيدا عن جبينها عند أعلى رأسها بعقدة أنيقة , بشرتها الصافية كانت تميل الى سمرة برونزية , وفي حركاتها اللامبالية رشاقة كسولة أما عيناها الداكنتان فضيقتا الفتحة وتلمعان ببريق ساخر , كانت روشيل تتكلم بشيء من التعالي وألى جانبها سوزان مأخوذة بما تقوله صديقتها وهي بادية السعادة بالزائرة الجديدة : " سوزان هل لك يا عزيزتي بجلب كوب من الشراب البارد , حلقي جف من طول الطريق". كان صوت روشيل آمرا , فأطاعت سوزان بسرعة , ووجدت كولبي نفسها تنظر الى بيللا بتساؤل فأبتسمت قائلة: "روشيل ستبقى معنا ليومين أو أكثر , وهكذا يتسنى لكما لمعرفة بعضكما بشكل أفضل , ربما يستطيع دارت أن يرتب نزهة الى أقصى البلاد , هذا أذا لم يكن مشغولا". وعادت سوزان الى الغرفة تحمل صينية عليها ثلاث أكواب من الشراب المثلج فرفعت بيللا حاجبيها: " وأنا أيضا أريد كوبا من الشراب يا سوزان". وتلعثمت سوزان وهي تقول بأضطراب: " لكن يا أمي....". " شكرا لك يا عزيزتي". تضايقت بيللا من قلة ذوق أبنتها , ستتكلم معها لاحقا في هذا الشأن ,ونقلت روشيل أهتمامها الى كولبي: " علينا أن نعمل على جعل أقامتك ممتعة بيننا , في أي حال سبعة أشهر تمر بسرعة , أتصور أنك تريدين الأستقلال الذاتي في أسرع وقت ممكن , دعي الأمر لي , سأكلم دارتلاند". كادت كولبي تضحك , لكنها تمكنت من السيطرة على نفسها (دارتلاند) لم تسمع أحدا من قبل يناديه بهذا الأسم , حتى والدته. خرجت بيللا من الغرفة لتداري أنزعاجها من تصرفات روشيل , قالت أنها ذاهبة لتشرف على اللمسات النهائية لطعام الغداء أغلقت الباب وراءها وهي تسمع روشيل تقول لأبنتها سوزان: " عزيزتي سوزان عليك أن تفعلي شيئا في شأن بشرتك؟". وتلمست سوزان وجهها وهي تصغي بأهتمام الى روشيل تصف لها بعض العلاجات الخاصة بالبشرة الجافة , ولم تتحمل كولبي مزيدا من ذلك , نهضت من مقعدها , أعتذرت من الفتاة وخرجت الى الشرفة. مرت ساعات بعد الظهر ثقيلة على قلب كولبي فغالبا ما كانت تشعر بعيني روشيل النافذتين تحدقان فيها , سوزان على الأقل كانت تستمتع بوقتها , غير مهتمة للملاحظات المضحلة التي كانت تقوم بها صديقتها على حسابها , كانت منهمكة في تقليب صفحات مجلات الأزياء الأميركية والبريطانية التي أحرتها روشيل معها. وحاولت كولبي جهدها أيجاد قاسم مشترك للحوار بينها وبين هذه الفتاة التي تتصرف كصديقة حميمة للعائلة , لكنها وجدت الأمر صعبا , فروشيل أنسانة جافة وباردة ينقصها الكثير من الصدق والصراحة والدفء , ولذا ظل الحديث بينهما سطحيا يتناول مواضيع عامة. وغادر الرجال بعد مغيب الشمس , فصار الجو أكثر مرحا , دخل دارت غرفة الجلوس تحيط بها هالة من الحيوية تميز عادة الرجال الذين يمضون أوقاتهم في الهواء الطلق , عيناه الرماديتين تألقتا ببريق فضي تحت الأضواء الخافتة. وتوجه دارت مباشرة الى روشيل التي أحنت قامتها بدلال ورسمت على فمها القرمزي أبتسامة رائعة: " دارتلاند كم هو رائع أن أراك مرة ثانية". " أنت ضيفة خاصة جدا في كنغارا يا روشيل". وأبتسم لها وهو يلقي بيده بتكاسل على كتف كولبي التي لم تر في جملته الأخيرة أي شيء يبرر حمرة الخجل التي لونت وجه روشيل. " لماذا كنت تخفي عنا يا دارت أبنة عمك كولبي , يا لها من طفلة جميلة ورقيقة". وصرخت كولبي بحدة: " طفلة....". دخل ستيفن الغرفة وقبل رأس والدته سائلا: " من هي الطفلة الجميلة الرقيقة؟". " أنا يا ستيفن , أو على الأقل روشيل ترى ذلك". رد كولبي جاء ساخرا , فألتفت ستيفن الى روشيل: " لا أوافقك رأيك يا آنسة تينانت , كولبي تبدو أكثر كأميرة حالمة لا نراها الا في كتب الأساطير طبعا, رأيي غير مهم , فأنا أيضا صبي صغير". " ربما ". أجابته روشيل برقة مصطنعة , فأبتسم ستيفن لكوابي: " كيف وجدت الآنسة تينانت الجذابة؟ جاءت لتلقي شعاعا من الدفء والسعادة في حياتنا الحزينة". وردت روشيل وهي تحاول السيطرة على غضبها: "شيء من هذا القبيل يا ستيفن". وتدخل دارت ليرطب الأجواء المتوترة: " كفوا جميعا عن هذا المزاح". ونهضت بيللا من مكانها : " سأذهب لأتأكد من أن العشاء أصبح جاهزا ... ستيفن , أذهب وأسأل مايك ما أذا كان يرغب في الأنضمام الينا , قل له أن روشيل هنا". وخرجت بيللا من الغرفة ووراءها ستيفن وسوزان ووضعت روشيل بين شفتيها سيكارة قدمها اليها دارت , وأحنت رأسها في أتجاهه ليشعلها لها. " كنت أقول لكولبي أننا سنفعل كل ما في وسعنا لجعل أقامتها ممتعة بيننا , لا نريدها أن تمل أليس كذلك؟". نفث دارت سيكارته في حلقات رمادية تصاعدت في الهواء وألتفت الى كولبي مبتسما : " هل تعتقدين بأنك ستشعرين بالملل هنا يا كولبي؟". " في بعض المناسبات فقط وأرجو ألا تطول!". فعلقت روشيل بضحكة مصطنعة : " يا لك من طفلة شقية! ما رأيك يا دارت؟". " لا يمكن توقع ما ستفعله بعد دقائق". وكادت كولبي تصرخ غضبا , ألا أنها تمالكت أعصابها عندما ألتقت عيناها بعينيه المداعبتين : " فليسمح لي الكبار بالأنصراف الآن , أود أن أستبدل ثيابي للعشاء". وصعدت كولبي الدرج راكضة الى غرفتها , توقفت طويلا أمام المرآة , تنظر الى صورتها بعين ناقدة , كم تمنت لو كانت أكثر طولا , لا تستطيع أن تنكر أن دارت وروشيل يليق كل منهما للآخر فعلا , وشعرت بغصة وهي تتخيلهما معا فمدت لسانها بحركة طفولية للوجه الصغير القلق الذي يتراءى لها في المرآة , ما بها تعلق كل هذه الأهمية على شعور روشيل أتجاهها ؟ لا يمكنها أن تفرض محبتها على الجميع ... لكن روشيل تنظر اليها دائما بسخرية مزعجة تضايقها فعلا. وأنتهت كولبي من أعادة ترتيب زينتها , وأرتدت فستانا حريريا برتقالي اللون , ما زال أمامها ساعة كاملة للعشاء , أختارت كتابا وجلست تقرأ ,وأستغرقتها القصة فلم تشعر بمرور الوقت , حتى دقت ساعة البورسلين الصغيرة تشير الى السادسة والنصف. نزلت الى غرفة الجلوس , فوجدت أن روشيل سبقتها الى هناك وما أن رأتها تدخل حتى علقت قائلة: "تبدين أصغر من عمرك يا كولبي , واضح أنك نشأت محاطة بالعناية والحنان , وهذا لن يفيدك في هذه الأرض القاسية , تذكري بأنك لم تعودي طفلة". " أعرف جيدا أنني لم أعد طفلة يا روشيل ". " يلزمك بعض الوقت". " بعض الوقت لماذا؟". " لتعرفي أنك لا تنتمين الى هذه الأرض". " لا أعرف لماذا تتصرفين معي بهذا الجفا يا روشيل , لكنك مخطئة , أنا أنتمي الى هذه الأرض , أنا جزء منها وهي جزء مني". " حسنا , لا أعتقد بأنني سأحبك أبدا يا كولبي وأن كنت سأتظاهر بعكس ذلك أمام دارت , أنا سأفعل أي شيء للحصول عليه". " تفاجئينني دائما.". ودخل ستيفن الغرفة , فكفت كولبي عن الحديث. "ما بكما , أشعر بالتوتر في الأجواء". " أعتقد أن الآنسة كينغ الصغيرة لا تحبني ". " أعطها بعض الوقت , ألم نتعلم كلنا أن نحبك؟". وكاد الحديث يتحول الى مشادة حامية لولا دخول بيللا ووراءها دارت ومايك وسوزان , بيللا بدت أنيقة جدا في ردائها الوردي , أما سوزان فكانت مختلفة بشعرها المسرح مايك ودارت أستبدلا قمصانهما العادية بقميصين حريريين أبرزا لون وجهيما البرونزيين. وجلست كولبي تراقبهم جميعا تخلت روشيل عن كل تصرفاتها الهازئة لتحيي القادمين برقة وأنوثة , سألت مايك بدلال عن أحواله , وأفسحت مجالا لبيللا لتجلس قربها على المقعد العريض , بدت كأنها تعتقد فعلا أنها جزء من العائلة. ولاحظ ستيفن صمت كولبي فجلس قربها يخبرها بتفصيل ومرح عن الأحداث التي حصلت له ذاك اليوم , وضحكت له كولبي مشجعة ودخلا في حديث جانبي بعيدا عن الحوار العام الدائر في الغرفة , وقتطعها صوت دارت الذي علق عاليا يحاول لفت أنتباهها: " لا أعتقد أنهما سمعا ما نقول". وضحكت روشيل ضحكة مشبعة بالمعاني: " طبعا لا , في أي حال تستطيع أن تخبرهما بعد العشاء. ولم تذكر كولبي ما حدث بعد ذلك , نسيت كل شيء وهي ترى دارت ينظر الى كولبي بغضب , ترى ماذا قالت له عنها؟ هذه الفتاة لا تجلب ألا المشاكل. وقطع حبل أفكارها صوت ستيفن يعاتبها ضاحكا: " ما بك؟ هل أصبحت فتاة سلبية لا تعرف معنى كلمة لا". ولم تفهم كولبي قصده فتابع قائلا: " في الدقائق الأخيرة أجابته بنعم على أكثر أقتراحاتي سخفا". " آسفة يا ستيفن , لم أسمعك , يبدو أنني كنت أحلم". "لاحظت ذلك". وجاء دور الحلوى , فتناولت كولبي شيئا منها وهي تحاول السيطرة على أنفعالاتها , كانت تشعر بنظرة روشيل القاسية والساخرة تستقر عليها بين وقت وآخر ومن حسن الحظ أن بيللا وحدها كانت تدير دفة الحديث , لم يكن على كولبي الا اظهار اهتمام مهذب. وتشعب الحديث حتى تناول وسائل الترفيه المتوفرة للسيدات في تلك المنطقة. فتبرعت روشيل بتقديم إقتراح لتمضية إجازة خاصة جداً. " ما رأيكم بليلة نخيم فيها في العراء تحت النجوم، ونتحلق حول النار وسط إحدى البقع النائية ". وتكاسلت نظرها على دارت وهي تتابع بغنج: " وبما أنكم معنا , فلن نخشى شيئا". تحمست سوزان للفكرة ووافق عليها دارت , أما كولبي فأنزعجت من الأهتمام الواضح الذي أبداه أبن عمها لأقتراح روشيل , حتى هو لن يستطيع الصمود أمام أغراء فتاة كهذه , وخرجت كولبي الى الشرفة فور أنتهاء العشاء فلحق بها مايك: " ما بك يا كولبي , أتمنى أن لا تكون روشيل قد تمكنت منك!". " هل بدا عليّ ذلك؟". " وجهك البريء , ما زال صغيرا على أرتداء الأقنعة". " في أي حال فكرة روشيل للقيام بهذه الرحلة لا بأس بها سأهتم بك وأحميك يا كولبي الصغيرة". " وهل تعتقد فعلا أنني بحاجة لمن يحميني". وعادا الى غرفة الجلوس , أسرعت سوزان لتستأثر بأهتمام مايك , فأستغلت كولبي الفرصة مجددا الى الشرفة , كانت تريد البقاء وحيدة لفترة. الليل كان موحشا وداكنا والسماء ملبدة بالغيوم , حاولت كولبي أن تفكر في أمر يريحها ويفرحها , فأتجهت بأفكارها الى سورشا فرسها الجميلة التي لم تتعرف الى مثل أصالتها على الألاق , وهي الآن ملكها ... تخصها وحدها. وسمعت كولبي وقع أقدام وراءها , فحاولت أن تختفي في الظلال الداكنة لكن دارت كان أسرع منها فأمسك بمعصمها بشدة وأخرجها الى بقعة النور المتسللة عبر الباب المفتوح: " ماذا تفعلين يا صغيرتي؟". " كنت أفكر في سورشا". "قولي الحقيقة يا كولبي , هل بدأ قلبك الشاب يعرف معنى الحب". وأحست كولبي بحمرة الخجل تلون وجنتيها: " آه يا دارت ,كيف أستطعت أن تقول ذلك , أنا لم أعرف معنى الحب بعد". "حسنا , أبتعدي عن الأفكار الرومنطيقية حتى أسمح لك أنا بها , أنا الوصي عليك , وسأحميك حتى تصبحي بالنضج الكافي للأهتمام بأمورك الخاصة". وأبتعدت عنه جريحة الكرامة: " أنت لا تطاق , يا لك من أنسان مستبد يا دارت , سأفعل ما يحلو لي!". " حقا ؟ سنرى! كنت دائما طفلة عنيدة! لكننا سنرى ما ستفعلينه هذه المرة".
5- فرس في الأفق!
****************************
أشرقت الشمس بكل جلالها لتغرق الأرض بأولى هبّات الموسم الحار , أختالت مبطنة في قبة السماء , ورمت بردائها الذهبي على العشب الطري الذي أستيقظ للحياة عند أولى زخات أمطار تشرين( أكتوبر). القطعان أنتشرت بتكاسل على التلال تلتهم الطعام في هدوء, تحت أشراف العمال الذين أستفاقوا مع الفجر ليعتنوا بها. وفي الأفق , ركضت فرس بنية اللون تسابق الريح جذلى وهي تفتح صدرها لروعة الشروق , وأستراح دارت على صهوة جواده يراقبها عن بعد , لا بد أنها كولبي! كم من الأميال يا ترى قطعت هذا الصباح , يجب أن يمنعها من الأبتعاد عن المنزل أكثر من أثنتي عشر ميلا , ما لم يكن معها رفيق يحميها , وأبتسم وهو يتخيل رد فعلها على هذا القرار الجديد. يا لها من فارسة ماهرة , كانت تشكل والفرس وحدة منسجمة تتمايل على الأيقاع ذاته , كان يتطاير في الهواء حرا بعدما سقطت قبعتها عن رأسها , لتستقر على ظهرها عالقة بخيط رفيع حول العنق. تستطيع هذه الفتاة رغم رقتها , أن تتعامل مع معظم الخيول في أسطبله , طبعا ما عدا جواده الخاص الذي يحتاج للسيطرة عليه , ها هي تقترب منه الآن ! أنه يرى ملامحها تتألق فرحا بروعة الصباح , وحمرة خفيفة تركتها الشمس على وجنتيها , لو حت له بدها وصرخت عن بعد: " دارت أنتظرني!". كم مرة سمع منها هذه العبارة عندما كانت طفلة , أنفرج فمه عن أبتسامة ساخرة فور وقوفها الى جانبه . " أرى أنني لم أضيع وقتي بدون جدوى ساعات طويلة في تعليمك الفروسية , أنت فارسة أصيلة يا آنسة كولبي". " فرسي هي الأصلية". كانت فخورة فيها , أنحنت تربت بحنان على عنقها الجميل الحساس : " قولي لي يا آنسة كولبي , ما هي المسافة التي قطعتها اليوم؟". وضحكت عيناها وهي تشد لجام سورشا لتدور بها حول دارت: " أرفض الأجابة على أي سؤال قبل الساعة العاشرة صباحا". وأضافت مداعبة: " لا تقل لي أنك ستصدر قرارا جديدا يا عزيزي دارت , يحدد المسافة المسموح لي بأن أجتازها كل يوم". وقطب دارت حاجبيه , وقبل أن يجيب بكلمة واحدة أنطلقت كولبي بفرسها , وعلى بعد أمتار قليلة أنحنت برشاقة لتقطف وردة قبل أن تنتصب بأعتداد على صهوة جوادها , وعادت الى دارت والوردة في شعرها , رمزا أنثويا للأنتصار. جمد دارت كالتمثال فوق حصانه , ولم يخن وجهه الصلب ما يشعر به , لجمت كولبي فرسها قربه وهي تحس بالحياة تضج في عروقها , وفجأة تحرك دارت كالشرارة ليرفعها عن صهوتها بلمحة خاطفة , ويضعها على السرج أمامه . " ما زال أمامك الكثير لتتعلميه". ونظرت اليه معجبة بمهارته وسرعته , كانت الشمس تتلاعب فوق وجهها الجذاب , وبدت عيناها الخضراوان أكثر أخضرارا وأجابته بمرح طفولي: "أليس أمامنا جميعا الكثير بعد لنتعلمه؟". وألتقت نظراتهما في تحد , فأعاد دارت وضع القبعة على رأسها قائلا: " هذه القبعة صنعت لترتديها ". وبضربة خفيفة أرسل سورشا عائدة الى المنزل بدون فارستها التي ظلت أسيرة على جواد دارت. روشيل وسوزان كانتا تتسامران في الشرفة عندما وصلا الى البيت الكبير , ترجل دارت أولا ورفع ذراعيه ليساعد كولبي لكنها كانت قد سبقته بالقفز عن صهوة الجواد بلا مساعدة. وسلم دارت لجام الجواد الى بن الذي يظهر دائما في الوقت المناسب , وكأنه يشعر بحدسه أن دارت في حاجة اليه وأبتسمت كولبي للعجوز وهي تسأله: " هل عادت سورشا الى المنزل؟". " نعم يا آنستي , هي في الأسطبل الآن , نزعت عنها سرجها ونظفتها من الغبار العالق بها أنها فرس أصيلة وأنت تعرفين كيف تتعاملين معها". وأحنت روشيل رأسها فوق السور الحديدي: " أستيقظتما باكرا , أرى حصانا واحدا , لماذا؟". فأجابها دارت مبتسما: " كنا نمارس بعض الألعاب الفروسية , من أعد لي طعام الفطور؟ أنت يا روشيل؟ صباح الخير يا سوزان , هيا جميعا الى غرفة الطعام". كان ستيفن قد سبقهم الى المائدة , أما بيللا , فكانت تحرص دائما كسيدة كنغارا على تناول الفطور في فراشها , لاحظت كولبي صحن ستيفن العارم بالبيض المسلوق ,والبطاطا المقلية , واللحم فضحكت مداعبة: " يا ألهي , هل ستأكل كل هذا؟". " نعم , معدتي ليست كمعدتك مثل العصفور". وأبتسم وهو يبتلع قطعتين كبيرتين من الخبز مشبعتين بالزبدة ونظرت سوزان الى كولبي وهي تتناول طعامها: " كم أتمنى لو أستطيع أن أتبع نظاما غذائيا مثلك لأحافظ على رشاقتي ". وضحكت كولبي عاليا: " ولكنني لا أتبع أي نظام غذائي, أنا من الناس الذ ين يحرقون بسرعة وحدات الحرارية الزائدة". " يا لك من محظوظة". وقاطعهما دارت : " أذا وافقت الفتيات على الفكرة , سنذهب غدا الى منطقة كوكا –بارا –بوندي ,وسنخيم ليلا في التلال , أعتقد أنكن ستستمتعن بهذه الرحلة". وكانت روشيل أول من وافق على الفكرة: " رائع يا دارت طبا ستأتين معنا يا سوزان!". " طبعا, لن يستطيع أحد أن يبقيني في المنزل". ولم تتمالك نفسها من الألتفات مبتسمة الى كولبي التي بدأ سحرها العفوي يتسلل الى أعماقها: " سنستمتع بوقتنا , أليس كذلك يا كولبي؟". " نعم , أتصور الآن نيران المخيم بهالتها البرتقالية البراقة , وأطراف السكائر المشتعلة , والوجوه البرونزية المألوفة , وأرى القمر يتأرجح في السماء ليلي بخيوطه الفضية على الخيول الساكنة في الظلمة وأسمع أصوات الحيوانات الليلية تنطلق من الزوايا السرة والأرض.". "يا لك من أنسانة رومنطيقية". كانت هذه روشيل تقطع ببرود الحلم الذي كانت تنسجه كولبي بحب , فألتقط دارت آخر الخيط فتابع نسخ اللوحة وفي عينيه شيء ما أضاف على الحلم بعدا جديدا. " والأرض تعبق بألف عطر وعطر , أنها أرض الأساطير والأحلام , والأسرار , التراب يضج بقصص الماضي , وبالرموز الدينية التي يؤمن بها السكان الأصليون". ولم تترك عينا روشيل وجه دارت وهو يتحدث بحلم عن الأرض التي يعش. " وصفك رائع يا دارت , أمضيت في هذه البلاد أربع سنوات وما زلت لا أعرف عنها شيئا". أرادت كولبي في تلك اللحظة أن تقول لروشيل أن السكان الأصليين لا يكشفون أسرارهم وتقاليدهم الا للذين يبرهنون عن جدارة بالثقة وعن أحترام تراثهم , وأن روشيل بتصرفاتها الجافة لم تفعل شيئا لتتقرب منهم. لكنها لم تقل شيئا بل تابعت الحديث حيث توقف دارت: " أساطير السكان الأصليين هي جذور طفولتي , هل تذكر العجوز مولا يا دارت , كان يقول أن الذي ينسى حلمه هو أنسان ضائع". " نعم ,أذكر يا كولبي , للحلم أهمية كبيرة في حياتهم ومعتقداتهم وتقاليدهم ". وشعرت روشيل أنها بعيدة جدا عن الحديث فتدخلت تقطع الحديث: " ستخبرني لاحقا كل هذه القصص المسلية , أليس كذلك يا دارت؟". وأبتسمت له بدلال: " طبعا يا روشيل , ما رأيك بالليلة؟". " وفضح وجه روشيل لهفتها: " حسنا ألى هذا المساء". " سأذهب الى الحظائر الآن , لو خطر لك أن تلحقي بي فسأكون قرب النهر". وألتفت الى كولبي ليضيف: " ولا تنسي قبعتك ,أنا لا أضطر الى تذكير روشيل أو سوزان بذلك". وفور أنصراف دارت أعتذرت روشيل وخرجت لتستلقي تحت أشعة الشمس: " تعالي معي يا سوزان". " سألحق بك بعد دقائق ,علي أولا تنظيف الطاولة". فعرضت كولبي خدماتها: " أذهبي يا سوزان , سأقوم عنك بالعمل". " شكرا , روشيل وأنا لدينا الكثير بعد لنتحدث عنه". ورمت بمنديلها على الطاولة لتلحق بصديقتها , وأنصرفت كولبي الى العمل وهي شاردة الذهن , فلم تسمع السيدة أيفانز تدخل الغرفة: "صباح الخير يا آنسة كولبي , شكرا لمساعدتك". " هل تسمحين لي بتجفيف الصحون بعد أنتهائك من غسلها؟". " أتريدين ذلك حقا يا كولبي؟". " ولما لا؟ أعتقد أن لديك اكثير من الأعمال تريدين أنجازها". " لا أنكر ذلك , لكن... حسنا , تعالي معي الى المطبخ ,لن أضطر على الأقل الى لملمة بقايا الأواني المتكسرة بعد أنتهائك من تجفيفها". وضحكت كولبي وهي تلحق بها ,وبعد فترة دخلت ميني الخادمة الصغيرة , كان لها أطول رموش رأتها كولبي وأبتسمت ميني بخجل فقامت السيدة ايفانز بالتعارف: " ميني... هذه كولبي , أبنة عم السيد دارت , هيا يا صغيرتي , خذي هذه السلة وأذهبي الى الحديقة وأختاري لنا أجمل الورود قبل أن تذبلها حرارة الشمس ولا تتأخري كعادتك". " وفور عودتك يا ميني , سأقوم بترتيب الزهور في الآنية الملونة". وأبتسمت ميني بثقة وهي تحيي كولبي , وخرجت تتمايل بمشية راقصة لتعود بعد قليل بمهرجان رائع من البنفسج والورود , وعندما بدأت كولبي تنسق الزهور في كل أرجاء غرفة الجلوس وقفت ميني تراقبها بصمت لدقائق وهي تتأرجح على قدم واحدة. " ما رأيك يا ميني , هل أعجبك تنسيق الزهور؟". " لم أر أجمل منه". " أنا متأكدة أنك تستطيعين القيام بالعمل ذاته بل وبطريقة أفضل". " أعتقد أنني سأكون أفضل في هذا العمل من تجفيف الصحون التي لا أعرف كيف تنساب من بين أصابعي بدون أن أتمكن من ألتقتطها". وضحكت لفتاتان وأعتذرت ميني من كولبي فور سماعها وقع قدمي بيللا. " علي أن أذهب الآن , السيدة الكبيرة آتية". وأختفت فور دخول بيللا الغرفة. " صباح الخير يا كولبي , ما أجمل هذه الزهور , نسقتها فعلا بكثير من الفن والحب , أين سوزان وروشيل؟". " في الشرفة يا عمتي". " تتحدثان كالعادة , لن نزعجهما ,ما رأيك يا عزيزتي في تناول الشاي معي , السيدة أيفانز تحضره لي كل صباح في غرفة الجلوس الخاصة بي , تعالي معي". وسبقتها الى الجناح الغربي من المنزل , وعندما دخلت كولبي غرفة الجلوس الخاصة ببيللا وقفت تتأملها برهة , أنها الغرفة الوحيدة في المنزل التي تحمل طابعها الخاص , الألوان دافئة تندرج بين تموجات البرتقالي والذهبي , الرفوف كانت تحمل عددا كبير من الكتب وأزدانت الجدران بلوحات تمثل التلال الرملية عندما تخلع عليها شمس المغيب ظلالا قرمزية , وأغلقت بيللا الستائر. " سيكون هذا النهار شديد الحرارة". " أحب الحر يا عمتي , يجعلني أشعر بالحيوية". " كم تشبهين دارت , هو دائما يقول ذلك , لكن أنتبهي يا عزيزتي , لا تتعرضي كثيرا لأشعة الشمس , أنها مؤذية". ودخلت السيدة أيفانز بعد أن نقرت على الباب بضربة خفيفة. " رأيت الآنسة كولبي تدخل معك فأضفت فنجانا آخر". " شكرا لك". تركت السيدة أيفانز الصينية الحافلة بأنواع الحلوى , وخرجت بعدما أغلقت وراءها الباب بهدوء. جلست بيللا وراء المائدة الصغيرة ,لتصب الشاي من الأبريق الفضي برشاقة تدل على خبرة طويلة ,وراء الأواني الفضية , لم يعد فيها شيء من المرأة المزارعة , بل بدت على طبيعتها سيدة أرستقراطية جاء بها العم سيروس من المدنة , وأنتزعها من محيطها الطبيعي , لتهتم بشؤون كنغارا. " هل تحبين الحليب مع الشاي يا كولبي؟". " لا شكرا يا عمتي". ودخلت ميني حاملة وعاء السكر , أرادت أن تؤدي تحية مهذبة فأنحنت بأحترام , لكن محاولتها أنتهت بأن علق أبهام قدمها بالسجادة فتعثرت ووقعت في حضن بيللا , لكنها لم تكسر شيئا هذه المرة. " لم أكسر شيئا هذه المرة يا سيدتي". وحافظت بيللا على برودة أعصابها وهي تقول: " حسنا يا ميني , أخرجي الآن". وحاولت كولبي السيطرة على ضحكاتها المكتومة وهي ترى أستياء بيللا , أنها تحب ميني برغم كل الكوارث الصغيرة التي تحدث فور دخولها المنزل ,وتناست بيللا الموضوع. "كولبي قلت لي أمس أنك تريدين مساعدتي في المراسلات , لا أريد أن أستعجلك ,ولكنني سأكون سعيدة جدا لو وفيت بوعدك , لا تعرفين كم أكره هذا العمل". " أنا سعيدة لأنني أستطيع مساعدتك يا عمتي , أنني أكره البقاء بدون عمل". وترددت بيللا قبل أن تتابع قائلة: " هل تساعدينني اليوم؟". " ولما لا , الآن؟". ومر الصباح في أنجاز المراسلات. عادت روشيل وسوزان من نزهة بعد الظهر وهما تتألقان نشاطا وحيوية , كانت كولبي تقف في الشرفة تبحث عن بوكا , تريده أن يسمع البرنامج الدراسي الذي يبثه الراديو المحلي يوميا لأطفال السكان الأصليين. ونظرت اليها سوزان عاتبة: " ماذا حدث لك ؟ أين كنت؟". "كنت أساعد العمة بيللا , هل أستمتعتما بوقتكما ؟". أجابتها روشيل بحدة: " وما الذي يجعلك تعتقدين أننا لم نستمتع بنزهتنا؟". أستغربت سوزان رد فعل صديقتها , فعقدت حاجبيها أستياء , كم كانت تشبه والدتها في تلك اللحظة. " دارت سأل عنك يا كولبي , قالت له روشيل أنك رفضت مرافقتنا , لكن طبعا أذا كنت تساعدين والدتي..". ترددت , فأنقذتها كولبي من أضطرابها: " لا تهتمي للأمر , سأخرج بعد قليل". وأبتسمت لها سوزان بمودة , فتدخلت روشيل لتقطع الحديث: " هل سنمضي النهار كله هنا , أشعر بالعطش سوزان , أريد شرابا باردا وأكثري فيه الثلج". " حسنا يا روشيل ,أسبقيني الى غرفة الجلوس , هل تريدين شرابا باردا يا كولبي؟". " لا شكرا , أحاول العثور على بوكا". " مهمتك عبة ,ليس من السهل أيجاده ". وأنتظرت روشيل أن تدخل سوزان أولا الى المنزل لتلحق بها فهي لم ترد أن تسمع صديقتها عبارتها الأخيرة: " كولبي , تلعبين دور المساعدة الصغيرة , أليس كذلك؟". لم تجبها كولبي وكأنها لم تسمعها , وبعد خمس عشرة دقيقة رأت كولبي بوكا قرب الأسطبل , ألقت كتابها وأنطلقت كالسهم لتمسك به قبل أن يختفي! فأصطدمت بدارت الذي كان يصعد الدرج بتمهل. " يا ألهي , عليّ منذ اليوم أن أربط جرسا حول رقبتي ينذر رنينه بقدومي , فلا أتعرض لحادث أصطدام مرة أخرى , هل لي أن أسألك الى أين أنت ذاهبة؟". " لألحق ببوكا , هناك درس مهم على المذياع أريده أن يسمعه". " لا تستعجلي الأمور يا صغيرتي , بوكا سيعيش طوال حياته في هذه المزرعة بين أبناء جنسه وفي محيطه الطبيعي , هؤلاء الناس أنا مسؤول عنهم". "لكنه يحتاج الى الثقافة يا دارت". " طبعا , وسيحصل عليها ,لكنها ستكون ثقافة أجداده وأبناء عرقه , بوكا خرج الى الأحراش منذ كان طفلا في الثانية من عمره , وتعلم من الطبيعة أسرارها وخصائصها والسكان الأصليون يعتزون جدا بحضارتهم , أسمعيني جيدا يا كولبي , لي خبرة طويلة في هذا المجال , فتسعة من عشرة لا يستوعبون ثقافة الرجل الأبيض ,ولا يستفيدون منها , والسبب ليس بساطتهم أو أنه ينقصهم الذكاء , بل لأنهم يرون سعادتهم الحقيقية في الأنصهار في الطبيعة". " ماذا تريدني أن أفعل يا دارت؟". " كما تريدين أنت يا صغيرتي , لكن لا تنسي أن بوكا ليس بطفل أبيض وأن طموحاته وأهدافه كلها تنبع من واقع بيئته , شجعيه على القراءة وساعديه بما تستطيعين , لكن لا تحاولي أبدا فرض وجهة نظرك عليه". ووضع يده على كتفها بحنان: " أنت طفلة طيبة يا كولبي ...أخبريني الآن , لماذا رفضت الخروج من المنزل اليوم؟". " كنت أساعد العمة بيللا في أنهاء بعض الرسائل المتأخرة". " حسنا , تعالي معي الآن , لكن أذهبي أولا لتغيير فستانك هذا؟". " لماذا ألا يعجبك؟". " بلى , لكنني لا أعرف ماذا سيحدث لحرارة مايك؟". وبرقت عينا كولبي بضحكة أنثوية: " حسنا سأعود بعد دقيقة واحدة ". " لن أنتظرك أكثر من ذلك". وعادت كولبي بعد ثلاث دقائق فقط وهي ترتدي سروالا مريحا وقميصا فاتح اللون , وعلى عنقها ربطت منديلا حريريا بلون شعرها. وتفحصها دارت طويلا: " ما بك تنظر الي هكذا يا دارت , هل تتفحصني؟". " أنا أتفحص كل النساء عادة لكن عندما يتعلق الأمر بك علي أن أنتبه لنفسي ". " لا أفهم قصدك". " ومتى ستصبحين قادرة على الفهم يا صغيرتي؟". وفي عينيه الرماديتين تلاعبت أبتسامة مداعبة , فرفعت كولبي حاجبيها بلا مبالاة مصطنعة: " ربما كنت أفهم أكثر مما تظن فعلا!". وضحك وهو يتأبط ذراعها , ليمشي معها الى الأسطبل. " كفي عن هذه الأدعاءات يا صغيرتي , ما زلت طفلة لا تعرف شيئا بعد عن الحياة". رآهما بن عن بعد , فأحضر لهما جواديهما , وكعادتها لم تنتظر كولبي أن يساعدها دارت , فأسرعت تمتطي صهوة فرسها وأنطلقا معا ,لفهما الصمت دقائق طويلة كانت كولبي تسترق بين حين وآخر نظرة خاطفة الى وجه دارت الأسمر الذي كان يعبر بكل ملامحه عن سعادة الرجل الفخور بملكيته , هذه أرضه ,وهذه مزرعته , وهذا قطيعه بلاده تمتد واسعة كالبحر وفيها التحدي ذاته , كانت أولا وآخرا عالما للرجال بقوتها وقساوتها لكن كولبي كانت تحبها كما يحبها دارت , دماء كينغ تجري في عروقها ومعها الأصرار على التحدي وحب الحياة , عنفوان آل كينغ كان يشع من عينيها ويظهر في حيوية حركاتها وشخصيتها , أنها فعلا أبنة عم دارت ! كم كانت روشيل مخطئة ! أنها تنتمي الى هذه الأرض وجذورها مغروسة عميقا فيها , ألم يكن العم سيروس يدعوها بأبنة الشمس؟ ولاحظ درت أبتسامتها الساهمة: " بماذا تفكرين؟". أبتسمت له وهي تحمي عينيها بيد واحدة: " كنت أتذكر الأسم الذي أطلقه علي العم سيروس: أبنة الشمس". وخلعت قبعتها لتتمتع بأشعة الشمس تتسلل بين خصلات شعرها , وأسرع دارت لأعادة القبعة الى مكانها. " أنت مزعج حقا يا دارت! هل تظن سأموت نتيجة التعرض قليلا لأشعة الشمس". وقلد دارت نبرة صوتها وهو يجيب: "أنت مزعجة حقا يا كولبي! كنت أعتقد أنك تعرفين أكثر من غيرك أن التعرض لحرارة الشمس في هذه المنطقة مؤذ للغاية , وأستغرب فعلا أنك لم تقدري بعد أهمية ملاحظتي , في أي حال أنا السيد هنا وعليك أطاعة أوامري". جدية كلماته ناقضها البريق المرح في عينيه اللتين أستقرتا على بشرتها: " أنت فتاة محظوظة فعلا , لأنك تملكين بشرة صافية كهذه , حمراوات الشعر معرضات عادة للأصابة بسرطان الجلد , خاصة اللواتي يتنزهن في حر الظهيرة بدون قبعة". " بما كنت على حق". وشدت قليلا على لجام سورشا التي أسرعت الخطى تلبية لرغبة فارستها , النهار كان حارا وجافا كما توقعت بيللا. ناداها دارت لتتمهل قليلا , لكنها أصرت على المضي قدما وهي تشعر بشبابها يكاد يتفجر حيوية في عروقها , وأمام قساوة الطبيعة أحست عدم الثقة بالنفس وكأنها حيوان بري يبحث عن ملجأ بعدما كشف مكانه الصيادون. وتركها دارت تنطلق وحيدة حتى أقتربا من القطيع , فلحق بها في لحظة : " كنت تتصرفين كطفلة عنيدة وصعبىة أليس كذلك؟". وشعرت كولبي وكأن قلبها يقفز من مكانه عندما سمعت صوت دارت وأنتظرت أن يهدأ خفقانه قبل أن تلتفت الى أبن عمها وعلى شفتيها أبتسامة أعتذار. " أعتقد أنني تصرفت فعلا كطفلة ,كن صبورا معي يا دارت ". ولم تترك عيناه وجهها , وكأنه أراد أبقاء ملامحها سجينة فيهما ,وتململت سورشا ,فربتت كولبي على ظهرها مطمئنة . وأقبل عليهما مايك من بعيد , فلوح له دارت. " كولبي أنتظري مايك , أريد أن أتحدث الىماغاني". وأبتعد عنها مسرعا بأتجاه القطيع , وبعد دقائق كان مايك يقف أمامها مبتسما. " صباح الخير آنسة كولبي , تبدين دائما أكثر جمالا , كيف تفعلين ذلك؟". أستراحت كولبي على صهوة فرسها , وهي تقاوم رغبة عارمة في خلع قيعتها : " أنها طبيعة الأنثى يا مايك". وأنتقل مايك بنظره من الفتاة الرشيقة الى الفرس البنية التي أحنت رأسها لتداعب العشب الطري. " يا لها من حيوان جميل! جمالها ينبع من أصالتها , لا أعتقد أنني رأيت مثل لونها من قبل , أنظري الى الطريقة التي تأكل بها العشب , تبدو كسيدة أرستقراطية". ورفعت سورشا رأسها بأعتداد , وحدقت الى الرجل الواقف أمامها ,وكأنها تفهم وتقدر أعجابه بها. وضرب مايك على رأسه فجأة وكأنه تذكر شيئا مهما: " يا ألهي , كيف نسيت! سمعت منذ حين قصة من أحد السكان الأصليين المتقدمين في السن , علي أن أخبر دارت فورا بما قال , لا بد من أن ألحق به بسرعة". " ها هو دارت آت الينا". قالت كولبي مستغربة القلق الواضح في صوته ,وما أن توقف دارت قربهما حتى قال: " دارت , عجوز أخبرني منذ قليل بأنه رأى رجلا وأمرأة يوقفان سيارتهما قرب مركز الحرس القديم". وعقد دارت حاجبيه بأهتمام قلق: " ومتى كان ذلك؟". " رآهما عند الشروق , لكنه لم يستطع الوصول الى المزرعة لأبلاغنا ألا منذ دقائق قليلة , طلبت أليه أن ينتظرك". " حسنا , أين هو؟". وقاده مايك الى جذع شجرة يابسة , أستلقى تحتها عجوز حفرت السنوات أخاديد عميقة على خديه , أنحنى دارت على العجوز ودخلا في حوار باللغة المحلية , نهض بعده دارت مسرعا. " آمل أن نصل اليهما في الوقت المناسب , العجوز أخبرني بأنه رأى الرجل يغادر سيارته ,أما المرأة فيبدو أنها لم تتحرك من مكانها , أن يترك المرء سيارته ليتجول على الأقدام في حر المنطقة النائية , وبدون أن يعرف شيئا عن طبيعة هذه الأرض , جنون قد ينتهي بمأساة , علينا أن نلحق بهما قبل فوات الأوان , من حسن الحظ أن الحر لم يشتد بعد , وأننا نعرف مكانهما بالتحديد ". " سنأتي معك". صرخ مايك وكولبي في آن واحد فأصدر دارت تعليماته بسرعة: " مايك أحضر سيارة الجيب , سنعود أولا الى المنزل الكبير , هيا يا كولبي". ولن ينطق أحدم بكلمة واحدة , والسيارة تشق طريقها وسط التلال الرملية وعند وصولهم الى المنزل الكبير كانت بيللا تنتظرهم في الشرفة , أحست بحاستها السادسة , التي تكتسبها كل النساء اللواتي يعشن طويلا في المناطق النائية , أن أمرا مهما حدث. " ماذا حدث يا دارت؟". " رجل وأمرأة أوقفا سيارتهما قرب مركز الحرس القديم , سألحق بهما". " من الأفضل أن أرافقك يا دارت". وأسرعت عئدة الى المنزل لكن دارت ناداها قائلا: "سآخذ كولبي معي يا بيللا , الأفضل أن تبقي هنا , للأستعداد لأستقبالهما , أنت تعرفين جيدا ما يحتاجه المرء في مثل هذه الحالة". " حسنا , تعالي معي يا كولبي لأعطيك حقيبة الأسعافات الأولية ". وألتفتت الى أبنتها سوزان التي خرجت الى الشرفة برفقة روشيل: " سوزان أحضري وعاء من الماء وأحكمي أغلاقه". وقفت روشيل بدون حراك ,وهي تركز كل أهتمامها على دارت: " وأنت دارت , هل لديك مؤونة كافية من مياه الشرب؟". " نعم , وضعتها في السيارة". " كيف يضع الناس أنفسهم في مواقف كهذه ؟ وكأن لا شغل لك ألا اللحاق بسائحين متهورين لا يقدران عاقبة أستخفافهما بالتحذيرات التي لا بد أن تكون قد وجهت اليهما حول خطر التجول في هذه المنطقة بدون دليل". " الحمد لله أننا لم ندخل بعد موسم الصيف". أكتفى دارت بهذا الرد , وألتفت ليساعد مايك في أعداد سيارة الجيب , وعادت كولبي بعد قليل تحمل حقيبة الأسعافات الأولية , ووراءا بيللا تردد بصوت عال: " الحمد لله أن الحر لم يشتد بعد". جلس دارت أمام مقود الجيب والى جانبه مايك وكولبي , وما أن أدار محرك السيارة حتى ساد الصمت , لم يكن أحد منهم يعرف ماذا ينتظرهم في نهاية الرحلة ففي المساحات الرملية الشاسعة والخالية من الأشجار , يسهل على المرء أن يضيع وهو يلاحق سرابا يتلألأ عن بعد , ومياها وهمية يتحامل التائه على عطشه ليصل اليها , فتهرب منه حتى يسقط تعبا فتتلاشى تماما. كان دارت يحدق في الطريق أمامه , ويركز على قيادة السيارة , بدون أن يفضح وجهه ما يجول في داخله , وترددت السيارة فوق الأرض الرملية الناعمة , وكادت الأطارات تغرق فيها , فعمد دارت فورا الى زيادة السرعة كي لا تدور الدواليب في مكانها ,وتابعت السيارة طريقها , التوقف في منطقة كهذه يعني الموت البطىء. وعلى بعد أمتار قليلة رأت كولبي حيوان الكتغارو مستلقيا بتكاسل في ظل بعض النباتات الصحراوية , رفع رأسه بحشرية ليحدق في هؤلاء المتدخلين المزعجين الذين قطعوا عليه قيبولته , ضحك ركاب السيارة فخفت حدة التوتر داخلها. وكانت الشمس تركض أمامهم لتحول السماء الى درع من النحاس الأصفر , ولم تتمالك كولبي نفسها من التفكير في المرأة التائهة في الصحراء ,هل سيتمكنون من العثور عليها في الوقت المناسب؟ وسرت في جسمها قشعريرة خوف أحس بها دارت فحوّل نظره لحظة عن الطريق ليطمئنها : " كل شيء سيكون على ما يرام يا كولبي , الرجل العجوز أجتاز مسافة كبيرة لينذرنا بما حدث , لا تخافي سنجدهما ". وتمكنوا فعلا من العثور عليهما بعد ساعة واحدة , كان الرجل في أوائل العشرينات , وجدوه هائما على وجهه , مرهقا , وخائفا , أما زوجته الشابة فكانت مستلقية على المقعد الخلفي لسيارتهما الصغيرة وآثار الدموع ما زالت واضحة في الأخاديد الطويلة التي حفرتها على وجهها المغطى بالتراب. لم ينبس أحد بكلمة واحدة , لم يكن هناك ما يقولونه , بلل دارت قطعة من القماش , وأخذ ينظف بها وجه ورقبة الرجل المستسلم له , وكأنه طفل في الخامسة من عمره , أما كولبي فأنصرفت للأعتناء بالسيدة الشابة , التي أخذت تبكي بمرارة وهي تهز رأسها بعصبية يمينا ويسارا وعندما لم تنفع محاولات كولبي في تهدئتها قطع دارت الصمت ليقول بحزم: " كفى , أنت بأمان الآن , حافظي على ما تبقى لك من قوة". وأخذ قطعة القماش المبللة من كولبي ,ليكمل المهمة بصب , حدقت المرأة المتعبة في وجه الأسمر الجذاب وفي عينيها تساؤل صامت , أبتسم لها , فتألقت أسنانه البيضاء , لتضفي مزيدا من الجاذبية على ملامحه البرونزية . " هل تشعرين أنك أحسن الآن؟". لم تترك عينا المرأة وجه دارت وهي تهز رأسها بالأيجاب: " حسنا". وتناول كوب الشاي الذي أحضرته كولبي ليقربه بطء من شفتي المرأة بعد أن أسند رأسها على ذراعه . " أشربي هذا الآن , وعندما تشعرين أنك قادرة على التحرك , سنعود بك وبزوجك الى المزرعة ". وأسترق نظرة خاطفة الى خاتم الزواج الذهبي في أصبعها , الذي تزينه ماسة كبيرة. " أسمي دارتلاند كينغ , أنا من كنغارا , هذه أبنة عمي كولبي , وهذا مايك فاراداي رئيس العمال". وجال الزوجان بنظرهما من واحد الى الآخر , وسارعت كولبي للأهتمام بالمرأة : " سأعتني بها الآن يا دارت". نهض دارت وهو يهز رأسه أيجابا , وعاد الصمت يخيم على المكان , الوقت ليس مناسبا الآن للأسئلة والقصص , سيتركونها حتى يتمالك الزوجان أنفاسهما . كان مايك يتفحص السيارة الصغيرة وعلى وجهه شيء من عدم التصديق والشفقة , فأقترب منه دارت: " لن تصدق هذا يا دارت , السيارة فارغة من الماء والزيت , ولم يجلبا معهما مؤونة كافية من الوقود ومن مياه الشرب". " هل هناك ما يكفي من الوقود للعودة بها الى المنزل؟". " نعم , لكنني سأحاول أولا تحرير الأطارات الغارقة في الرمل". " حسنا , سنتحرك فور أنتهائك , الحمد لله أن سوءا لم يحصل لهما , قليل من الخوف فقط". وعندما وصلوا أخيرا الى المنزل , كانت بيللا بأنتظارهم , هي أيضا لم توجه سؤالا واحدا بل قادت الزوجين الى غرفة الضيوف المعدة لأستقبالهما , وخيم السكون على المنزل الكبير. قدم العشاء في ساعة متأخرة من المساء , وروى الزوجان للمرة الأولى قصتهما , وكيف وصلا الى هذه المنطقة النائية ,كانا من نيوزيلندا , أقتصدا أشهرا طويلة ليتمكنا أخيرا من قضاء شهر العسل في قلب أستراليا الميت الذي يختلف تماما عن جزيرتها الصغيرة بقساوته وصلابته. تجربتهما المريعة أصبحت الآن مجرد ذكرى , فالعناية الساهرة التي أحيطا بها منذ قدومهما الى المنزل الكبير , أنستهما مرارة الساعات لطويلة التي ذاقا فيها طعم الوحدة والخوف والضياع. كانت السيدة هاريسوت تتألق حيوية وهي تروي تفاصيل الرحلة المأساوية , فحتى الدقيقة التي جفت فيها الحياة تماما عن محرك السيارة , كانت السيدة الشابة تنظر الى الأمر كله على أنه مغامرة مثيرة ستحكيها لاحقا لصديقاتها , أحتواهما العالم الشاسع الجديد بصمته وقساوته ,فوقعا تحت سيطرته حتى كاد يقضي عليهما. " كانت تجربة غنية". وبدت السيدة هاريسون وكأنها تتوجه الى دارت وحده , أما زوجها فكان ينظر اليها بحنان , وهو سعيد لأنها أستردت حيويتها ومرحها , كان من الواضح أن العنصر الأهم في الرواية التي ستقصها كاتي هاريسون لصديقاتها سيكون الفارس الأسمر الذي أنقذ حياتها. وهمس مايك في أذن كولبي: " أعتقد أنها تغلبت على تعبها , أليس كذلك؟ بل أظن أن السيدة الشابة لن تمانع في تكرار المغامرة , في حال تأكدت أنها ستجد الرجل المناسب لأنقاذها ,دارت رجل جذاب فعلا". " لا أنكر ذلك". أحست بسحره يتغلغل في أعماقها طوال السهرة , أي أمرأة تستطيع أن تقاوم كل هذه الجاذبية . " يبدو أن روشيل غير سعيدة بعملية الأنقاذ هذه , لا تحب أن يشاركها أحد أهتمام دارت". ورفعت كولبي رأسها أثر كلمات مايك لتتأكد مما تقول , فألتقت عيناها بعيني دارت , ورأت فيهما مرحا مداعبا وشيئا من التحدي. بيللا وسوزان كانتا مستغرقتين في حديث مع جون هاريسون محاضرة طويلة عن مخاطر السفر في هذه الأرض المتوحشة , والصعوبات التي عليهما توقعها , وكيفية مجابهتها فكثيرة هي القصص التي تروي عن أناس قضوا حتفهم لأنهم لم يحملوا مؤونة كافية من مياه الشرب , أو أفقدهم الخوف قدرتهم على التمييز , فالذي لم يألف المساحات الرملية الشاسعة يغلبه الخوف والوحدة والقلق ورغم تحذيرات البوليس والسكان الأصليين يخاطر بعض السواح بترك سياراتهم , عندما ينفذ منهم الماء ,ويذهبون لطلب المساعدة سيرا على الأقدام , وهنا تكون المأساة. وبعد أن أنتهى دارت من حديثه , نهض ليتصل بجهازه اللاسلكي , وسياة الأتصال الشائعة في هذه المنطقة , بأصحاب المزرعة التالية ليوصيهم بالزائرين , وهم بدورهم سيتصلون بأصدقائهم لتسهيل رحلة آل هاريسون , وهكذا سيكون دائما أحد ما في مكان ما يسهر على سلامتهما , وعندما سيصلان أخيرا الى بلادهما , سيصبح بأمكانهما أخبار أصدقائهما أنهما أجتازا قلب أستراليا الميت بدون خوف أو خطر. وفي صباح اليوم التالي , وبعد أن تنازلا طعام الفطور , ركب الزوجان سيارتهما , المزودة بكل ما يمكن أن يحتاجانه من مؤونة , وودعا الجميع , وقبل ثوان من تحركهما أخرجت كيتي هاريسون رأسها من نافذة السيارة لتبتسم لمضيفها قائلة: " هل تسمح لي؟". رن صوتها طفوليا خجولا , فأحنى دارت رأسه مبتسما: " طا لما لا يمانع جون!". فأسرع الزوج يقول مداعبا: " هيا , كنت محظوظا لأنني وضعت خاتم الزواج حول أصبعها قبل أن تلتقي بك ". قبلت كايتي هاريسون خد دارت , وأستلقت في مقعدها والدموع تملأ عينيها , شكرها للمعاملة الطيبة التي تلقتها عبرت عنه بالدموع بعدما عجزت الكلمات عن ذلك. وزودهما دارت بتعليماته الأخيرة , قبل أن يبتعد عن السيارة وهو يلوح لهما مودعا تنفست روشيل بأرتياح: " أخيرا رحلا! هل رأيتم كيف تصرفت؟ كيف تسمح لنفسها بذلك وزوجها جالس بجانبها". فأجابتها كولبي ساخرة قبل أن تلحق بسوزان وبيللا الى دخل المنزل: " أليس من الأفضل أن تتصرف كذلك بوجوده بدل أن تنتظر غيابه!". وألتقت العائلة في غرفة الجلوس , جلس دارت قرب روشيل , وأخذ ينظر الى كولبي التي كانت منشغلة عنه بالضحك وستيفن. وهمست روشيل بصوت محمل بالمعاني الخفية: " أنهما يتفقان كثيرا برغم قصر المدة التي مرت على تعارفهما , أعتقد أنه التقارب في السن". وسمعها ستيفن برغم أستغراقه في الحديث فلم يتمالك نفسه من التعليق بسخرية: " كلماتك هذه تدل على قلب طيب يا آنسة تينانت". وعاد يركز أهتمامه على كولبي. " أنا معجب بالطريقة التي أعتنيت بها بالسيدة هاريسون يا كولبي , هل تعرفين أنني كنت أحلم بأن أصبح طبيبا في يوم من الأيام , لكن الظروف لم تسمح بذلك". وأستغلت روشيل هذه العبارة لتنتقم من سخرية ستيفن السابقة بها : " حسنا فعلت, عودتك عن قرارك أنقذت حياة الكثرين". روشيل , روشيل , أظهري قليلا من الأحترام للناس ,لن تجدي زوجا بهذه الطريقة". وعضت روشيل على شفتها السفلى وهي تحترق غيظا , وأنقذ الموقف دخول ميني المفاجىء وهي تحمل باقة من الزهور الصفراء وضعتها في أناء جميل وكان من الممكن أن يمر دخولها هذه المرة على خير , لولا أن لاحظت روشيل تسرب بعض قطرات الماء من أسفل الأناء فصرخت: " لا تضعيه على المائدة , ستفسدينها". أرادت أن تحمي ما تعتقد أنه سيكون لها مستقبلا , صوتها الآمر أخاف ميني , فأسقطت الأناء من يدها كما توقعت كولبي , وتناثر الزجاج المحطم على السجادة أسرعت كولبي الى ميني تهدىء من روعها. " عودي الى المطبخ يا ميني , لا تخافي لن يغضب أحد منك لم تكن غلطتك". وخرجت الفتاة الصغيرة ترتعش خوفا وهي تسمع روشيل تقول بغضب: " لا أعرف لماذا لا تتخلصون من هذه الفتاة الطائشة , أنها خطر متحرك". ولم يجبها أحد, أنحنت كولبي تجمع الزهور الصفراء عن الأرض , وفجأة تأوهت بصوت خافت ,وسالت الدماء من قدمها , داست على قطعة زجاج كبيرة أخترقت أحدى فتحات حذائها الصيفي. وأسرع اليها دارت بعدما لاحظ شحوب لونها ,كان يغمى عليها دائما عند مشاهدة الدم وهي طفلة , رفعها بين ذراعيه بينما كان ستيفن يربط الجرح بمنديله النظيف وحاول أن يهدىء من روعها : " آل كينغ كلهم شجعان". " قلت لك سابقا أن لكل قاعدة أستثناء". رددتها بضعف وهي تشعر بالأشياء تتمايل حولها , وحاولت السيطرة على نفسها , لماذا تتصرف بهذا السخف! سألتها روشيل وفي عينيها تأنيب واضح: " هل تتصرفين دائما بهذا السوء لدى رؤية الدم؟". " نعم". هزت كولبي رأسها بضعف وأستراحت على كتف دارت. " لا تتصرفي كطفلة يا كولبي , سأنظف الجرح , هل تستطيعين تحمل ذلك؟". أجلسها على المقعد وذهب ليحضر بعض الأسعافات الأولية من غرفة الحمام, نظرت كولبي الى منديل ستيفن المخضب بالدم , وأرغمت نفسها على التصرف كأنسان بالغ ,لم تعد طفلة , وعليها أ تجعل مخاوف طفولتها تتغلب عليها , عضت على شفتيها ,وحاولت التفكير بأمر يسعدها. وعندما عاد دارت , عرضت عليه روشيل أن تساعده بتضميد الجرح , فرفض مبتسما , عقدت حاجبيها بأستياء وأنصرفت عنهما غاضبة , أنها لن تحب كولبي هذه أبدا , يا لها من طفلة مدللة! وبدأ دارت بتنظيف الجرح كان عميقا لكنه تمكن من وقف النزيف ,ومن ثم ضمد قدم كولبي بعد أن تأكد من عدم وجود أي بقايا زجاج. شكرته كولبي معتذرة: " آسفة لم أتوقع حدوث هذا". " على المرء أن يتحمل حدوث هذا". وضحك مداعبا , وفجأة أنحنى عليها ليقبل وجنتها فأحست كولبي بسعادة لم تعرفها من قبل: " لماذا فعلت ذلك". فأجابها ساخرا كعادته: " ظننت بأنني ربما سأفقدك". ولم تستطع روشيل البعاد عنهما وهي ترى عن بعد المودة السائدة بينهما : " عزيزي دارت , ألا تعتقد أنه من الأفضل ألا ترافقنا كولبي في نزهة بعد الظهر , لا أظن أنها تستطيع تحمل الرحلة". " لن يمنعني أي شيء من مرافقكما". ونهضت فورا لتثبت قولها , فضحك دارت. " فتاة شجاعة فعلا! أرتاحي الآن ,علي أولا أن أنجز بعض الأمور". ووضع يده على كتف روشيل. " روشيل أنت تعرفين ما سنحتاجه لهذه الرحلة , على فكرة , أتصلي بوالدك وأخبريه أنك ستمددين أقامتك ليومين أو أكثر". وأشرق وجه روشيل , أما كولبي فأضطربت وخرجت مسرعة الى الشرفة لتداري أنفعالها , الألم لم تعد تشعر به في قدمها وحسب بل أيضا في قلبها , لكنا لن تحاول أن تحلل مشاعرها الآن.
6_ أشواك الغيرة
*************************
فاجأهم المغيب وهم يشقون طريقهم الى التلال الرملية , دارت وروشيل في المقدمة , سوزان ومايك في الصف الثاني , وأخيرا كولبي وستيفن يتحدثان ويضحكتن بصوت عال. وأشار لهم دارت بالتوقف. " أين تريدون نصب الخيام لقضاء الليلة؟ على التلال أم في الوادي؟". وأجابت روشيل وسوزان بصوت واحد: " على التلال". ألتفت دارت الى كولبي : " الوادي أليس كذلك؟". كان عرف تماما مكانها المفضل , لكنها لم تشأ أن تفرض خيارها على الآخرين : " أي مكان يرضيني يا دارت , أترك الخيار لك". " سنخيم في الوادي أذن". وضحكت روشيل لتخفي أستياءها الواضح من أهتمام دارت برغبات أبنة عمه. " حسنا لنذهب الى الوادي". وبعد عشرين دقيقة كانوا يضربون خيامهم قرب الينبوع الصغير في وسط الوادي , وأنصرفت الفتيات الى أعداد أماكن النوم ونصب الخيام, أما دارت ومايك فأخذا يجمعان الأغصان اليابسة لأشعال نيران المخيم. وبعد فترة تحملقوا حول النيران يتنشقون رائحة الشواء الذي أعده ستيفن بسرعة , حتى يسكت صراخ معدته المتقلصة جوعا. تناولوا طعامهم بصمت وكأنهم لا يريدون تعكير سكون هذه الليلة الحالمة , أحسوا براحة عميقة تتسلل الى كيانهم , فيها مزيج من الخشوع والسعادة ,وفجأة أنطلق صوت كولبي يغرد بحنين أغنية وطنية تعلمتها في طفولتها شدهم صوتها الملائكي الرخيم فأصغوا بأهتمام الى لحن الحب الذي تنشده للطبيعة والخير والجمال , وعندما أختفت آخر نغمة في عتمة الليل , فق الجميع أستحسانا , حتى روشيل عبرت عن أعجابها بحماس مفاجىء. ونظر دارت الى أبنة عمه بفخر وحنان ,كم تبدو رقيقة وجميلة ! لا! لن يضعف , وألتفت الى روشيل. " ما رأيك بنزهة قصيرة؟". " طبعا دارت بكل سرور". وأبتعدا ببطء وهما يتسامران همسا , أخفت كولبي ألمها بأبتسامة باهتة وأنتهز مايك فرصة جلوسها بمفردها ليقترب منها: " صوتك رائع يا كولبي ,, كل شيء فيك رائع". " هل تستعمل هذا الأسلوب دائما للتقرب من الفتيات يا مايك؟ وسامتك وحدها كفيلة بذلك!". وأحست فجأة بجسم لين يصطدم بوجهها ويطير هاربا , أنه وطواط ليلي أرتعدت كولبي خوفا وأشمئزازا وأمسكت بذراع مايك بحركة لاشعورية : " يا ألهي , لم يكن ينقصني ألا هذا!". " وأنا أيضا لم يكن ينقصني ألا هذا!". وأنحنى مايك ليقبلها في شعرها وجبينها ,وقبل أن تنطق كولبي بكلمة واحدة , أنصرف عنها عندما سمع سوزان تناديه لمساعدتها في أمر ما. عضت كولبي على شفتيها وهي تراه يبتعد عنها بسرعة , كيف سمح لنفسه بتقبيلها! وأحست بوجود شخص ما وراءها , فألتفتت لترى دارت يحدق فيها بقساوة. " ما بك هذه المرة يا دارت! يبدو أنني لا أستطيع أبدا الفوز برضاك مهما فعلت!". ولم يحاول دارت السيطرة على غضبه , بل أجابها بحدة: " العمل في هذه المنطقة قاس جدا , ومن الصعب العثور على عمال أكفاء يرضون العمل في ظل هذه الظروف القاسية , ومن المستحيل أيجاد شخص بمهارة مايك". " لا أفهم ماذا تقصد؟". وقبض على معصمها بعنف ,فكادت تصرخ ألما: " دعني يا دارت ,أنت تؤلمني ". " لا تتحديني يا كولبي , أنت فتاة جذابة , وأنا لا أريد أن أخسر مايك , أنا بحاجة اليه". " لكنك لست بحاجة الي , لو فرضت عليك الظروف أن تختار أحدنا , سأكون أنا من يرحل , أليس كذلك؟". " بل أتمنى أن أحتفظ بكما معا". " لم أكن أعلم أنك تربط صداقاتك بمصالحك الشخصية". " يكفي كولبي , تعرفين جيدا ما الذي أتوقعه منك , فلننسى الأمر الآن كان النهار متعبا". " طبعا , أنت تأمر ونحن ننفذ ... لا أتصور كيف أحببتك في يوم من الأيام". " وما زلت تحبينني يا أبنة عمي الصغيرة". " الدم لا يمكن أن يتحول الى ماء يا أبن العم الكبير". " هل هذا هو السبب الوحيد؟". رفضت الأجابة ,وأشاحت عنه بوجهها . " أذهبي الى خيمتك الآن , حان وقت النوم ". ولم يكن المخيم يستكين حتى أفاق الجميع على هدير صاخب يقترب منهم تدريجيا , وضجت الأرض بأيقاع بدائي , بري ,وريع , أصغوا جيدا وما لبثوا أن شاهدوا قطيعا من الخيول البرية يسابق الريح بأعتداد وعنفوان ومن لم يعرف القيود في حياته , وتوقف القطيع قرب الينبوع يروي عطشه. وخرج القمر من وراء سحابة عابرة , ليغرق قائد القطيع بضوئه الدافىء , فشهقت كولبي وهي ترى الحصان الأبيض يتألق كتمثال فضي نحتته يد فنان , رمزا للأصالة والقوة ,والجمال. " آه يا دارت كم يبدو هذا الحصان خياليا في ضوء القمر , وكأنه جزء من حلم بعيد لا يتحقق فعلا ألا في الأساطير". " أخفضي صوتك كولبي ,لحظة واحدة وسيشعر بوجودنا ". ولم يكد دارت يكمل عبارته حتى رفع الحصان رأسه يصهل عاليا لتحذير أتباعه من خطر قريب , رائحة الأنسان والنار يعرفهما جيدا, وحاسة الشم لديه لا تخطىء , وبجرأة وكبرياء أنطلق عائدا الى التلال ووراءه القطيع يضرب الأرض بقوائمه ,حتى أرتعدت خوفا من غضبه. أنتهى الحلم وعادوا الى فراشهم. أستيقظت كولبي مع بزوغ الفجر , تثاءبت براحة وألتفتت الى خيمة دارت , كانت فارغة , لا بد أنه ذهب للبحث عن الحصان الأبيض , تعرفه جيدا , لن يترك جوادا بهذا العنفوان يفلت من قبضته. تسللت من مكانها بهدوء حتى لا ينتبه الآخرون , أمتطت فرسها سورشا وأنطلقت با الى التلال بحثا عن دارت ,لن تجد صعوبة في العثور عليه , بن العجوز علمها كيف تقتفي الأثر جيدا في الأرض الندية الحمراء. وأضطرت كولبي الى لجم فرسها عندما وصلت الى ممر ضيق يتعرج بين صفين من النباتات الكثيفة , وأحست فجأة بشخص ما يرفعها بقوة عن صهوة جوادها ليضعها أرضا. " يا ألهي يا كولبي , ألا تستطيعين أبدا مقاومة رغبة تعريض نفسك للخطر؟". " تعمدت ذلك , المرأة قد تفعل الكثير للرجل الذي تحب , لكنها تفعل أكثر للرجل تخاف". " آسفة لم أكن أقصد أزعاجك". وعند رفعت عينيها معتذرة الى وجهه الأسمر الجذاب , صرخ صوت ما في داخلها , أنت تحبين دارت , أنت تحبين دارت. " لا , لم تزعجيني يا كولبي , أنا خائف على سلامتك ,ما زلت طفلة صغيرة". " وأنت رجل متعجرف , أنا لم أطلب المجيء الى كنغارا ,أنت من أصر على ذلك , لكنني أستطيع مغادرتها في أي لحظة". " وهل تريدين ذلك؟". لم تجبه , فضغط على كتفها بعنف. " ستبقين هنا الى الأبد , أنت جزء من كتغارا ,وهي جزء منك , لن تستطيعي مغادرتها أبدا". " قد لا توافق روشيل على بقائي". قالتها بعفوية , وندمت فورا على الملاحظة التي أفلتت منها , لكن دارت كان قد أنشغل عنها فور سماعه الأيقاع البري الذي أخذ يتردد صداه في الهواء. "كولبي لدي فكرة جيدة قد تنجح , سأستخدم فرسك كطعم , أنها حيوان جميل ولا بد أن تلفت أهتمام الحصان الأبيض". وأبتسم لها مداعبا: " برغم كل شيء , أثمر حضورك عن فائدة ما". " أتمنى ذلك يا دارت". " أبقي هنا وأبتعدي عن المشاكل , هل فهمت؟". " نعم , أرجوك دارت كن حذرا". أمتطى دارت صهوة جواده الأسود وأنتظر بدون حراك أقتراب القطيع , وكما توقع الرجل لفتت سورشا الجميلة أنتباه الحصان الأبيض فحول مساره بأتجاهها , وقبل أن يصبح قريبا بما فيه الكفاية ليشم رائحة الأنسان خرج دارت من مخبأه كالسهم وهو يلوح بالحبل الذي لا يخلو منه سرج أي راعي بقر , ودخل حصان دارت المعركة الى جانب سيده , فأنطلق يسابق الريح وهو يصهل متحديا منافسه. وتمكن الفارس من تطويق عنق الجواد البري برمي الحبل مرة واحدة ,وما أن شعر الحصان بالقيد حتى تفجرت كل وحشيته البدائية ,وقف على قائمتيه الخلفيتين يضرب الهواء بقائمتيه الأماميتين محاولا أسترداد حريته وتساقط الزبد من فمه وهو يصهل , فكان في صوته صرخة ألم رددتها التلال الرملية. وأقترب منه دارت تدريجيا وهو يشد على الحبل بقوة حتى سقط القائد الأبيض على جانبه مبللا بالعرق , ومشلولا بالخوف , وبعد ثوان أنتفض الحيوان الأسير رافضا الأستسلام بسهولة وظل دارت ممسكا بالحبل وهو يقترب أكثر فأكثر من الجواد الثائر , أنها معركة خطرة , ضربة واحدة من حوافر الحصان قد تقتله أو تشله مدى الحياة. وأنطلق الحيوان الأبيض في سباق مجنون والشرر يتطاير من عينيه , وطار دارت في أثره ممسكا بالحبل ,وهو يشجع جواده على قبول التحدي الذي أختاره منافسه , السباق هذا سيحدد نتيجة المعركة , والخاسر سيكون من يتعب أولا , فأنتصرت أرادة الرجل.
7_ المزحة السمجة
***************************
مددت روشيل أقامتها بضعة أيام , لتتابع محاولات دارت ترويض الحصان الأبيض أو تحطيمه كما كانت تقول , ولم يكن دارت يحب أستخدام كلمة تحطيم بل كان يستعمل دائما كلمتي تدريب أو تعليم الحصان أصول التعامل مع رغبة الأنسان. وفي اليومين التاليين , توافد كل سكان المزرعة لمشاهدة المواجهة العنيفة بين الحيوان المعتد بحريته والرجل المعتز بأرادته سور الحظيرة لم يكن يخلو من أي ساعة من ساعات النهار من المتفرجين , بعضهم قطع أميالا عدة ليكون هاك في اللحظة التي سيمتطي فيها الرئيس الحصان لمرة الأولى. وضع العمال سرجا على ظهر الجواد الذي وقف يزمجر غضبا بعدما غطى بن رأسه بكيس كبير ليمنع عنه الرؤية , قوائمه الأربع كانت ترتجف بعصبية تنذر بأن العاصفةالتي تتفاعل في داخله لا بد وأن تنفجر في الدقائق المقبلة. أبتعد دارت عن السور حيث كان يتحدث بهدوء مع مايك ,وبحركة سريعة ورشيقة قفز على ظهر الجواد الذي تشنج قليلا أستعدادا للمعركة . وأمسك الجميع أنفاسهم, لم يتحرك منهم أحد , ولدقيقة أخذ دارت يلمس عضلات الحيوان فأحسها ترتعش بعنف , أومأ برأسه الى بن فأسرع العجوز يرفع الكيس عن رأس الحصان الذي وقف لثوان معدودة بعدما عمته أشعة الشمس لكنه ما لبث أن ثار لكرامته الجريحة فأخذ يركض بجنون ويرفس بعنف ليسقط أو ل رجل تجرأ وأمتطى صهوته. أخذوا يراقبونه يتلوى وهو يحاول أن يعض قدم دارت الذي كان يشد اللجام ليبقى رأس الجواد عاليا ,وحاول الحيوان الذي لم ينس طعم الحرية بعد , أن يتمرد على أرادة الرجل الذي يحاول ترويضه وأرغامه على الأستسلام كيف يرضى بالسجن والعبودية , هو الذي كان يترأس قبل أيام قليلة قطيعا من الخيول البرية , يقوده عبر التلال فاتحا صدره للهواء الطلق وأشعة الشمس ,شعلة الحرية ما زالت تحترق في عينيه الغاضبتين ,ولن يتخلى عنها بسهولة. ظل الحان يركض في الحظيرة خائفا , غاضبا وقد غطى الغبار الأحمر تاجه الفضي , تصاعد الغبار غيوما حمراء في الهواء , وعلق بأنوف كل الذين كانوا يتحلقون حول السور , لكن أحدا منهم لم يتحرك من مكانه ويبدو أن أحدا منهم لم يكن حتى يبالي بالغبار , الأثارة كانت تتألق على كل الوجوه ,وتعالت أصوات المواطنين الأصليين العالية النبرة , تشجع الرئيس وتؤيده في معركته. لفتيات ربطن مناديلهن الملونة حول وجوههن , ما عدا كولبي التي سقط منديلها عن وجهها , فلم تقم بحركة واحدة لأعادته , كانت مستغرقة تماما في التحدي القائم بين الرجل والحصان. دارت من أمهر الفرسان فعلا يتوقع رد فعل الفرس حتى قبل أن يقوم بها , مرونته ورشاقته وصلابته لا يمكن أن يضاهيها أمهر الفرسان المعروفين بقدرتهم على ترويض أكثر الجياد تمردا . كان دارت يجلس مستقيما على سرجه , وهو يحاول أن يرغم الحصان المتعب على القيام بحركات أسرع , ترهقه وتجبره لى الأستسلام وفعلا خفف الجواد من رفساته القوية التي يمكن أن تقضي أحداها بسهولة على حياة أي رجل يستخف بها , تدريجيا هدأ فأخذ دارت يتحدث اليه بهدوء وحنان وهو يربت على عنقه المبلل بالعرق , وأنتهت المعركة. أقتربت روشيل من السور فور نزول دارت عن جواده , كان وجهها ألأسمر الجذاب يشع أعجابا. " كنت رائعا يا دارت ". وقف ينظر اليها بشرود , ووجهه الوسيم لا يعبرعن أي شيء . " لا أحب هذا العمل يا روشيل , لكنه ضروري". ورأت كولبي روشيل تلف ذراعها حول ذراع دارت , فأشاحت بوجهها وهي تحاول أن تكبت هذا الأحساس المفاجىء والغريب الذي أنتابها وجعلها تشعر بمزيج من الغضب والحزن , وسمعت ضحكات روشيل ترن على بعد أمتار قليلة منها فقررت أن تتجاهل الأمر , بيللا تنتظرها في المنزل , من الأفضل أن تركز أفكارها حاليا على العمل , في الصباح طلبت منها عمتها أن ترسل برقية تهنئة لأحدى قريباتها في مدينة أديلابيد , وذلك بمناسبة عيد ميلادها. أغتسلت كولبي من الغبار العالق بها , قبل أن تذهب الى المكتب الصغير حيث وضع جهاز الأرسال ,كانت الغرفة صغيرة مليئة بخرائط كبيرة تمثل القناة ومقاطعة كوينزلاند , وجنوب أستراليا , والمناطق الشمالية الجدران كانت غارقة في سيل من رماح واللوحات البدائية , ووراء المكتب الكبير تدلى جلد تمساح أنعكس عليه ضوء النهار المتسلل من النافذة العريضة أبتسمت كولبي بحنين وهي تحدق الى جلد الحيوان الميت , أصطاده دارت في مزرعة عمه , الواقعة في المناطق الشمالية , أصطاده في الثانية عشرة من العمر وأصر العم سيروس على أرجاع الجلد معه الى كنغارا ,وفور وصوله الى البيت الكبير أستغل الحيوان الميت ليدبر لرئيس عماله مقلبا يشهده كل من في المزرعة , وفي أحدى الأمسيات , وبينما كان رئيس العمال عائدا الى منزله من سهرة متأخرة , رأى الرجل أمام بابه تمساحا يتربص به , أصابه الهلع وكاد يمطر الجلد بوابل من الرصاص لولا تدخل بعض العمال الذين وضعهم سيروس كينغ هناك لمراقبة المشهد المضحك وعندما هدأ رئيس العمال أخيرا أكد أن هذه الحادثة سرقت من عمره عشر سنوات , وضحكت كولبي كما كانت تفعل دائما كلما وقع نظرها على الجلد , سكان المزرعة ما يزالون يتندرون حتى اليوم بالقلب. وأجتازت كولبي الغرفة لتجلس أمام جهاز الأرسال ,وعندما وضعته على الموجة التي تريد سمعت صوت رجل يقول: "أذا لم يكن هناك من نداء طبي أتركوا المجال للرسائل الآتية من مزارع : ر.ج . ب. و. ج. ك. و. ي.ل.م.و.ك.ج.ر". فأجابه صوت أمرأة : (هيا يا جيم) وعرفت كولبي صوت نولا ريتشموند , جارتهم من مزرعة ريتشموند التي يشار اليها بأحرف ر. ج. ب. وقرأ الرجل برقية حب طويلة وصلتها من زوجها الموجود حاليا في أديلابيد في رحلة عمل , حاولت كولبي أن لا تسمع الكلمات من المضحك حقا , أن تشعر في هذه المناطق النائية , أنك أقرب الى جارك الذي تفصله عنك مئات الأميال , مما لو كنت تجاوره في شقة في المدينة. ومرت ساعات الصباح بسرعة ,وكولبي تستمع الى مشاكل المزارع الكبرى المتفرقة في هذه المنطقة الشاسعة , رؤساء عمال يطلبون موافقة رؤسائهم الغائبين على أمر ما أمهات ترسلن برقيات حزينة تطلبن فيها من بناتهن العودة الى المنزل بعد أجازة طالت في المدينة , ومشاكل عائلية تحل على الهواء , وتخلل كل هذه الرسائل نداء طبي من أم تستنجد بالطبيب المتجول لمعالجة طفلها المريض . وتنبهت كولبي فور سماعها لأشارة كنغارا , أي أحرف ك. ج. ر. أرسلت البرقية التي تريد وأقفلت الجهاز. وقفت ونظرت حولها بأهتمام قبل أن تتوجه الى مكتب دارت المجاور لغرفة الأرسال ,حرّم أبن عمها دخول مملكته الخاصة هذه على كل أفراد لعائلة , ولم يستثني روشيل من القاعدة , وكم تشبهه هذه الغرفة! ينبع منها أنطباع بالقوة. كان من الواضح أنها تخص رجلا , على أحد الجدران كان هناك رسم زيتي كبير للعم سيروس , يحمل بصمات وشخصية الفنان الذي رسم العمة راشيل , أي صاحب اللوحة المعلقة في غرفة الجلوس. وتسلقت عينا كولبي القامة الطويلة البارزة العضلات , كان العم سيروس شديد الوسامة , في عينيه وفمه تعبير ينم عن شيء من القسوة والتسلط , وجهه يدل على أنسان أنشأ لنفسه أمبراطورية صغيرة في منطقة نائية .... رجل عرف كيف يجري الصفقات وينفذها , العم سيروس يشبه والدها , لكن تعبير الوجه كان يختلف تماما , والدها كان أكثر رقة وحنانا. في يوم من الأيام سيعلق رسم دارت هنا أيضا , لكن أين سيضعون رسم روشيل ؟ ما من شك أنها الزوجة المناسبة لرجل من آل كينغ , أرتعشت كولبي برغم حرارة الغرفة دارت أيضا سيكون زوجا ممتازا , وسامته الجذابة التي توحي بالكثير من الرجولية , أكتسبها عن عائلة والدته , لكن طابع آل كينغ المميز كان واضحا في شخصيته وتصرفاته. لكن ماذا عن روشيل ؟ تبا لروشيل لاحظت أنها كانت تتكلم بصوت عال , ضحكت لأنفعالها وخرجت من الغرفة على رؤوس أصابعها تلاحقها نظرات العم سيروس. في الرواق الساعة تشير الى الحادية عشرة , ما زال أمامها ما يكفي من الوقت لتلحق بدارت وبن ,كان يعملان في الحظائر على ترويض ما تبقى من الخيول البرية , رآها دارت مقبلة , فأقترب لملاقاتها. " بن أختار الفرس الصغيرة لبوكا , أنها حيوان أصيل , العجوز يعرف كيف يختار الجواد الأصيل , لا أحد يضاهيه في هذا المجال". " ولا حتى دارتلاند كينغ العظيم ؟ كنت أعتقد أن لك شهرة واسعة في هذا المجال". أبتسم لها وأخذ يتابع محاولات بن لترويض الفرس الصغيرة وألتفت فجأة الى كولبي ليسألها بأهتمام: " كنت أول من غادر الحظيرة هذا الصباح , ألم تعجبك الطريقة التي روضت بها الحصان الأبيض؟". أراد مداعبتها , لكنها أجابته بجدية لم يكن يتوقعها منها : " لا أعرف , يحزنني حقا رؤية أي كان يحاول تحطيم حرية كائن حي". لمعت عيناه كقطعتي فضة وهو يحاول أن ينفي التهمة عنه: "لم أحاول تحطيمها , أنا لا أحطم الخيول , أنا........". قاطعته كولبي ساخرة ,وهي تحاول أن تقلد طريقته في الكلام: " أعرف يا سيد دارت , تريد تدريبها على أصول التعامل مع الأنسان ,وأنت ماهر يا سيد دارت". " أعتقد يا آنسة كينغ أنك أنت بحاجة لمن يعلمك أصول التعامل مع الناس". " أكون شاكرة لك لو قمت أنت بهذه المهمة يا أستاذ دارت". وكاد الحوار يتحول الى مشاداة عنيفة , لولا أقتراب بو الذي رفع قبعته ليحيي كولبي بأبتسامة عريضة: " صباح الخير آنسة كولبي". وألتفت الى دارت يسأله بجدية: " هل أنت مشغول يا سيدي؟". " لا يا بن ,ما بك؟". " أحتاج لمساعدتك , لا أستطيع السيطرة على الفرس , يبدو أنها حديدية الأرادة". " حسنا يا بن , علينا أولا محاصرتها في زاوية محددة , كولبي أنزلي عن السور , وأبتعدي قليلا عن الحظيرة". وأحست كولبي بشخص ما يقف وراءها: " أهلا بوكا , جئت لترى فرسك , أليس كذلك؟". أجابت عينا بوكا حتى قبل أن يتفوه بكلمة واحدة : " نعم , كم هي جميلة ... فرسي!". وألتفت اليه جده محذرا: " لا تقترب من الحظيرة يا صغيري , أرجوك أن تبقى قرب الآنسة كولبي , أنها ليست فرسك بعد". وأمسك بوكا بيد كولبي , وعيناه لا تفارقان الفرس السوداء. تمكن الرجلان من محاصرة الفرس في أحدى الزوايا , لكن قبل أن يتمكن بن من رمي الحبل حول عنقها , ركضت نحو السور تحاول تحطيمه بقوائمها , ورمى دارت حبله بدقة فأحاطت العقدة العريضة في آخرة عنقها , أسرع لمساعدته بن في شد الحبل , وسقطت الفرس الغاضبة بثقل على جانبها تئن لهزيمتها , ظل بن ممسكا بالحبل , بينما أقترب دارت منها وهو يتكلم ببطء وهدوء , ليطمئن الفرس الخائفة , نظرت اليه بهلع , فمد يده يربت على ظهرها بحنان حتى هدأت تدريجيا . " هل أنتهى الأمر؟". كان بوكا قد أغلق عينيه حتى لا يشاهد عذاب الفرس . " نعم يا بوكا , أفتح عينيك , كل شيء على ما يرام الآن". وأقترب منهما دارت. " تعال يا بوكا , ألا تريد التعرف على فرسك الجديدة؟". وأنطلق بوكا في رقصة بدائية , يعبر بها عما عجزت الكلمات التعبير عنه ولم يتوقف الصغير عن رقصه حتى سمع صوت جده الآمر : " أهدأ يا صغيري , أهدأ! متى تكف أستعمال الطريقة الصاخبة للتعبير عن فرحك؟". وهدأ بوكا فورا , وبخفة تسلل الى فرسه ليراقبها بمزيج من الحب والشعور بالملكية. " فرسي... أنت لي... لي وحدي". أبتسمت كولبي لحماسه , وراقبته لبضع دقائق قبل أن تعود الى المنزل , عليها أن تنجز ما تبقى عليها من مهام قبل موعد الغداء. لازمت بيللا غرفتها , لأنها كانت تشعر بصداع قوي , ولذا تناولت الفتيات طعام الغداء بمفردهن على الشرفة , أمضت روشيل وسوزان معظم ساعات الصباح تتنزهان في أحضان الطبيعة , أبتسامة سوزان الرائعة شملت هذه المرة كولبي أيضا. " كنت أتمنى لو رافقتنا في هذه النزهة يا كولبي ,كان الصباح رائعا , ماذا فعلت كل هذا الوقت؟". " كنت مع دارت وبن في الحظائر , أختار بن فرسا سوداء رائعة لبوكا , كم كان سعيدا بها!". وقطبت روشيل حاجبيها أستياء. " ماذا ! فرس لبوكا!ستفسدون هذا الصبي بمعاملتكم الطيبة له,لن يعرف حدوده بعد الآن , على دارت أن يكون أكثر قسوة معه , أنه مجرد صبي من السكان الأصليين". قاطعتها كولبي بغضب: " بوكا سيصبح قريبا من أمهر رعاة البقر , تماما كجده , من صالح دارت أن يبدأ باكرا , كنت أصغر من بوكا عندما حصلت على جوادي الأول". ولم تحاول روشيل أخفاء نفورها. " العائلة كانت طيبة في معاملتها لك أيضا ,وما زالت حتى الآن". أستاءت سوزان من هذا الهجوم الواضح على قريبتها , لم تسمع روشيل تتكلم بمثل هذه العدوانية من قبل . " كولبي تبقى في كل الأحوال أبنة عم دارت , ترعرعت على أرض كنغارا قبل مجيء أي واحد منهم , ودارت يحبها كثيرا". وضعت كولبي فنجان القهوة بحذر على الطاولة , وأستأذنت بالأنصراف : " سأذهب لأغسل شعري من الغبار الذي علق عليه في الحظائر". وفوجئت كولبي عندما أستوقفتها سوزان: " تعالي معنا يا كولبي , مايك وعدنا بزيارة الوادي أنه ينتظرك!". " شكرا سوزان , أعتقد أنكما ستستمتعان بالرحلة أكثر بدوني". وغادرت المكان تاركة وراءها صمتا ثقيلا قطعته روشيل بعد لحظات: " لا تقولي أنك وقعت تحت تأثير ألاعيب الآنسة كولبي كينغ يا سوزان! كنت أظنك أذكى من ذلك!". " لا أفهم ما تقولين يا روشيل؟". وتفحصت سوزان صديقتها بعبوس , ثم شغلت نفسها بأبريق القهوة. "لا تفسدي هذا النهار يا روشيل , كنت قاسية جدا مع كولبي , عندما تتعرفين اليها أكثر ستجدينها في غاية اللطف". قطبت روشيل حاجبيها قبل أن تجيب: "أنا أنضج منك يا عزيزتي سوزان , ولي خبرة أوسع بالناس وبالحياة , كولبي فتاة مواربة , ستكتشفينها مع الأيام , أسمعي نصيحتي يا صغيرتي وأبتعدي عنها". وبلعت سوزان ريقها بصعوبة , لا ترغب بمجادلة روشيل , أعز صديقاتها, ستنسى الموضوع , لا بد أن تغير روشيل رأيها قريبا , وقدمت سوزان لصديقتها فنجانا من القهوة فتناولته مبتسمة . "شكرا سوزان , نستطيع الآن أن نتناول قهوتنا بسلام". كادت كولبي تصطدم بروشيل وهي تنزل درجات المنزل جريا , ولاحظت روشيل أن كولبي ترتدي ثياب الفروسية , أرادت أن تقول شيئا , لكنها غيرت رأيها فجأة , فمرت بصمت أمام كولبي وذهبت لتجلس في الشرفة. وعضت كولبي على شفتها السفلى ,آه لو تعود روشيل الى منزلها ! من المستحيل الشعور بالأمان والراحة وهذه الفتاة تسكن معها تحت سقف واحد وأخرجها من شرودها صوت روشيل البارد: " هل أنت ذاهبة الى الحظائر يا كولبي؟". توقفت كولبي وهي تظلل عينيها بيديها لتقيهما لهيب الشمس: " نعم روشيل". " دارت يريد حصانه الأسود ,هل تسرجينه لي يا عزيزتي , تأخرت عن الموعد". وللحظة لم تصدق كولبي ما سمعت , سمرتها المفاجأة في مكانها ,لم يكن دارت يسمح لأحد بلمس حصانه المفضل وتمكنت كولبي من النطق أخيرا : " ماذا ؟ أنت ستمتطين حصان دارت الأسود؟". " طبعا , ومن يستطيع ذلك غيري! كنت أتمنى لو كان بأمكانك القيام بهذه المهمة عني". وأشتعلت في عيني كولبي ثورة مكبوتة: " طبعا , بأمكاني القيام بهذه المهمة , أعرف كيف أتعامل مع الخيول , مثلك تماما". بل أفضل منك ! رددت كولبي في نفسها. " حسنا يا كولبي , أن كنت تظنين أنك قادرة على ذلك". وأسترخت روشيل بتكاسل على سور الشرفة. " ستوفرين عليّ الكثير من الوقت يا عزيزتي , سبقتني سوزان الى الوادي". "أنها مجرد خدمة بسيطة يا روشيل أستمتعي بنزهتك". " وأنت أيضا". وأبتعدت كولبي بدون أن تلاحظ البريق الساخر في عيني روشيل , ولم تشك كولبي بنوايا الضيفة العزيزة ألا حين أنطلقت بالحصان تسابق الريح . دارت حذرها مرارا ألا تقارب جواده , وهو ليس من الرجال الذين يسامحون العصيان , لا, لا يمكن أن تخدعها روشيل الى هذه الدرجة ,دارت يريد حصانه , وهو يعرف تماما أنها تفوق روشيل مهارة في ركوب الخيل والبرهان أن جواد دارت لم يمانع أبدا وجودها على ظهره. وجابت كولبي التلال بحثا عن دارت , فكن هو أول من رآها , وبلمحة حملها بين ذراعيه لينزلها بقسوة عن الحصان , وعرفت من بريق الغضب في عينيه , أنها كانت ضحية لعبة شريرة , أنصرف عنها دارت ليهدىء من روع الحيوان الثائر فتعلقت عيناها بوجه بن الذي وقف قريبا منها يتابع المشهد بقلق , وأحس العجوز بحاسته السادس أنه لن يستطيع أن يفعل شيئا لمساعدتها في هذا الموقف , فأبتعد ليجنبها أحراج وجوده. أغلقت كولبي عينيها وهي تحاول جاهدة السيطرة على الذعر الذي بدأ يتسلل الى كل كيانها , كم يبدو دارت مخيفا في هذه اللحظة , أنه من الرجال الذين يرهبهم الجميع , وينفذون أوامرهم بسرعة. وفتحت كولبي عينيها , أحست بيدي دارت تضغطان على كتفيها بقسوة مؤلمة. " أيتها البلهاء الصغيرة , هل تظنين أنني أريد مأساة أخرى على أرض هذه المزرعة , ألم أحذرك من الأقتراب من جوادي الأسود ؟ لماذا لم تلتزمي بأوامري؟". وأخذ يهزها بعنف ,وقد أعماه الغضب , أنهمرت دموعها وهي تحاول أن تدافع عن نفسها. " لكن يا دارت". " لا أريد أن أسمع كلمة واحدة , أستطيع تحطيمك يا كولبي , لا تتحديني أكثر من ذلك". وتقلصت عضلات وجهه هو ينظر اليها. " هل نسيت اليوم الذي عادوا به بأمي الى المزرعة ! أعتقد أنك تتذكرين المشهد جيدا , أنت مثلها تماما , لا تعرفين حدود قدراتك كأمرأة". وعاد يهزها بعنف , غضبه العارم لم تشهد له مثيل من قبل ..بلى... مرة واحدة , هكذا كان يبدو العم سيروس عندما خرج ليقتل الحصان الذي أودى بحياة زوجته. وقبل أن تعرف كولبي ما جرى لها , وجدت نفسها مستلقية على ركبتي دارت الذي أخذ يضربها بقوة كطفلة صغيرة , تدفق الدم الى رأسها , وغلى في دماغها , لم يكن يهمها أن تموت في تلك اللحظة , الدموع تحترق في عينيها , لكنها لن تدعها تنهمر. يا له من رجل متوحش! كيف يتجرأ على ضرب أمرأة ! أنها تكرهه.... نعم , تكرهه ... طبعا تكرهه! ولم تعرف كولبي أنها كانت تصرخ الكلمات عاليا , ساعدها دارت على الوقوف بعدما هدأ قليلا. " سواء كرهتني أم لا, لا تنسي هذا الدرس يا كولبي , وأتمنى ألا تعيدي الكرة , أكتشفت أن الأفعال لها تأثير أكثر عليك من الكلمات". " يا ألهي!". وغرزت كولبي أظافرها في راحة يدها لتمنع نفسها من صفعه. " كم أكرهك يا دارت , كيف تجرأت على ضربي أيها الثور الهائج! ولماذا؟". وأنهمرت دموعها غزيرة وهي تردد بعصبية : " كيف تجرأت... كيف تجرأت!". " سأتجرأ على فعل أي شيء طالما أنت في رعايتي". " لن أبقى في عهدتك بعدما حدث , أنا غير مرغمة على تحمل هذا النوع من المعاملة , تستطيع ممارسة سيطرتك على كل من حولك , لكنك لن تتمكن مني أبدا أيها الوحش البري". ورفعت يدها لتصفعه , فكان أسرع منها. " كفي عن الصراخ يا كولبي , لن أعتذر عما حدث , أنت أرغمتني على تأديبك , الا تعتقدين أن الدرس الذي تلقنته الآن يبقى أفضل من أن تكسري عنقك على المدى الطويل". وحاولت كولبي الأفلات من قبضته لكن بدون جدوى , الدموع في عينيها أعمتها عن رؤية وجهه الشاحب . " أرجوك دعني أذهب يا دارت , لا تذلني أكثر , لو كنت رجلا لقتلتك فورا". وعكس ما توقعت ضحك دارت وكأنها تمازحه: " لو كنت رجلا يا كولبي لما حدث كل هذا". وعندما تركها أخيرا , تعلقت كولبي بآثار أصابعه التي تركت خطوطا حمراء على بشرتها الرقيقية. " كولبي , آه يا كولبي , كيف أتصرف معك؟". وراقبها لحظات بصمت , ثم ألتفت لينادي بن فظهر العجوز بعد ثوان قليلة: " عد بالآنسة كولبي الى المنزل يا بن , سأهتم أنا بالحصان الأسود". وقفزت كولبي على صهوة الجواد بدون أن توجه نظرة واحدة الى دارت الذي وقف يراقبها بصمت. وعلى بعد أمتار ألتفت بن الى رفيقته الشابة ليعاتبها بحنان: " لماذا فعلت ذلك يا آنستي ,كان السيد دارت محقا في غضبه". وأنهمرت دموع كولبي مجددا: " حتى أنت يا بن!". ومد العجوز يده ليربت على كتفها محاولا التخفيف عنها: "أهدأي يا صغيرتي , لم أكن أنوي أن أجرح أحاسيسك بكلماتي , عرفتك منذ كنت طفلة صغيرة , لكنني لا أفهم ما الذي دفعك الى تحدي أرادة السيد دارت , أنت تعلمين جيدا أن هذا الحصان بالتحديد أقوى من أن يخضع لأرادة أمرأة". وأكمل العجوز حديثه يعاتبها بصوت حنون : " ألا تذكرين اليوم الذي قضت فيه سيدة كنغارا حتفها؟ كانت سيدة عظيمة ,لكنها كانت شديدة الأعتداد بأرادتها وصلابتها , أنا نفسي حذرتها من ركوب جواد السيد سيروس ! لم تسمع , لن أتكلم الآن عن الماضي , ضعي نفسك مكان السيد دارت , كان خائفا على سلامتك ,ولذا كان غضبه بهذه الشدة , أنه يحبك كثيرا يا صغيرتي , فيك يجري الدم ذاته". وعضّت كولبي على شفتيها لتوقف أرتعاشها : " لا أعتقد أنه يحبني يا بن , بدأ يضيق بالمسؤولية التي ألقاها والدي على عاتقه". " لا , لا تقولي هذا يا صغيرتي , أنت من لحمه ودمه". ولم تتمالك كولبي أعصابها أكثر من ذلك فأنفجرت قائلة: " أنها روشيل ,الآنسة تينانت ! هي سبب كل ما حدث , قالت لي أن دارت يريد جواده , فتبرعت بتأدية المهمة عنها". " الآنسة تينانت ! لكنها تعرف جيدا أن دارت حذرا , أيا كان الأقتراب من حصانه , هل أخبرته بحقيقة ما جرى؟". " لا , وأرجوك يا بن أن لا تخبره أنت أيضا بما حدث , يكفي ما جرى حتى الآن , كنت ضحية مزحة سمجة , لا أدري كيف صدقتها ! يا له من نهار مزعج". وأبتسم العجوز وهو يقول: " أعتقد أن الآنسة تينانت ,لا بد أن تعود الى منزلها قريبا". وعادت الحياة الى عيني كولبي وهي تردد: " أتمنى ذلك يا بن , آه كم أتمنى ذلك!".
8- الصفعة
********************
صباح اليوم التالي أستيقظت روشيل باكرا , ونزلت الى الحديقة لتختار مجموعة من الزهور , ستنسقها لاحقا بفن مترف ومعقد تعلمته خلال دراستها المكلفة في أحدى أشهر المدارس الأسترالية. وكانت سوزان تلاحقها كيفما توجهت لتستفسر منها أكثر عن مغريات الحياة في المدينة , , وعن كل الأشياء الرائعة التي فعلتها ورأتها روشيل. ولم تعد كولبي تستطيع تحمل المزيد , فتركتهما لتساعد بيللا في الأعتناء بحديقة الأزهار الصحراوية , مكانها المفضل , معظم الغرسان كانت تتفتح في النهار وبعضها في الليل , فتتألق في أحتفال رائع من الألوان يتماوج بين الأحمر والوردي والأصفر والأخضر والأبيض. ووقفت كولبي قرب بيللا المنحنية على مجموعة جديدة من الشتلات اليانعة تغرسها وتسقيها بحب. " هل أستطيع مساعدتك يا عمتي؟". " طبعا يا عزيزتي , هذا نوع جديد يحتاج الى عناية خاصة جدا , صحيح أنه يتطلب وقتا طويلا ليفرج عن زهوره لكن النتيجة تكون رائعة فعلا وتستحق الجهد المبذول لها , يمكنك ري الغرسات التي أنتهيت من زرعها , أنت تعرفين طبعا أن هذا النوع من النباتات لا يحتاج الى الري ألالا عند زرعه وتفتحه ,وبعد ذلك يترك بدون عناية". " وأين أضع الماء؟ على جذور الغرسة فقط؟". " سأعلمك". ووقفت بيللا تنفض التراب عن ركبتيها. " أنها عملية مهمة جدا". وتناولت بيللا وعاء الماء لترش منه قليلا على الجذور وعلى التربة المحيطة بها , ثم نثرت قليلا على الأوراق الخضراء. " هل عرفت كيف الآن؟ عليك أن تعاملي النبات بحب ورقة , وأذا أكثرت من الماء ستؤذبها ". وعملتا معا بصمت في جو عائلي ودي حميم , فبرغم الفارق الكبير في عمريهما , توطدت بينهما محبة عميقة وصداقة هادئة ,وبين وقت وآخر كانت كولبي تلمح في عيني بيللا أستسلاما حزينا , جعلها تشعر نحوها بحنان أكبر , من المؤسف حقا أن العم سيروس لم يترك لأرملته مبلغا كافيا يؤمن لها الأستقلال المادي , صحيح أن بيللا ليست بحاجة الى المال الآن , لكن الأمر يختلف عندما يعرف المرء أن له رصيدا خاصا يعتمد عليه. وعقدت كولبي حاجبيها عندما فكرت بدارت , لقد تجنبها بالأمس كمن يتجنب مرضا معديا , لا , فلنقل بالأحرى أنها هي التي تجاهلته , لأنه لم ينتبه لها أبدا , كان مشغولا بشرح تحركات النجوم لروشيل لأكثر من ساعة. وفجأة ظهر بوكا من وراء سور الأعشاب , فأفزع السيدتين المستغرقتين في عملهما وأفكارهما ,رأى الصبي شعر كولبي الناري عن بعد فجاء ليسليها , أبتسمت بيللا لكولبي , صحيح أن رفقته ممتعة وطريفففة لكنه سيعيق عملهما أيضا , وأخذ بوكا يركض من واحدة الى أخرى وهو يوجه أرشاداته ونصائحهالتي كان من الأفل تجاهلها. وفي زاوية بعيدة من الحديقة كان النحل يطير فرحا بين الزهور ليمتص رحيقها بنهم , وكانت نساء المنزل الكبير يتجنبن تلك الزاوية في هذه الفترة من النهار خوفا من غضب النحل , أما بوكا فلم يكن يستطيع ذلك برغم الأنذارات المتلاحقة التي وجهت اليه بهذا الصدد ,ولم يقتصر نشاط بوكا على مراقبة النحل , بل كان يحاول ألتقاط بعضها ليجففه لاحقا ويأكله , فهذا هو الطعام المفضل لدى السكان الأصليين , ويئست بيللا من أستدعائه بعد النداء الرابع. " لا أدري لماذا أقلق عليه , يبدو أن النحل لا يحاول أيذاءه , لو ذهبت أنا الى هناك لهاجمتني بدون رحمة". وتوقف بوكا عن لهوه عندما خرجت روشيل الى الشرفة وهي تصفق عاليا وتناديه بلهجة آمرة: " تعال هنا أيها الصبي الأسود!". رنت الكلمات مزعجة في الهواء , فلم تتمالك بيللا نفسها من التعليق قائلة: " يا ألهي , أتمنى لو تتجنب روشيل أستعمال هذه التعابير , أنها تجرح أحساس بوكا عتدما تناديه بالصبي الأسود , السكان الأصليون يعتدّون بلونهم وحضارتهم". وتجاهل بوكا النداء وكأنه لم يسمعه نزلت روشيل الدرجات القليلة لتقترب من بيللا: " أحاول العثور على ميني , أعتقدت أن الصبي الصغير يعرف مكانها , طبعا لن يخبرني كلهم يتكاتفون ضدنا". نظرت اليها بيللا , وبحركة لا شعورية حاولت ترتيب خصلات شعرها الفوضوية , لا تعرف لماذا يشعرها وجود روشيل بأنها أمرأة متقدمة في السن وسيدة مهملة لمظهرها العام. " وماذا تريدين من ميني؟". لوت روشيل شفتيها بأستياء وأشمئزاز: "كسرت أناء الزهور وأختفت كعادتها". " لا تقلقي روشيل , أعتدنا على ذلك". فقطبت روشيل حاجبيها: " أعتقد أنه يجدر بك معاقبتها". زمت بيللا شفتيها ولم تجب , فألتفتت روشيل لتبحث مجددا عن بوكا : " أين ذهب الشحاذ الصغير؟". " أسمه بوكا". قالتها كولبي بحدة وأنصرفت الى ري الغرسات , لكن روشيل أصرت على مضايقتها مجددا: " وهل لأسمه أهمية؟". تدخلت بيللا بحدة فأثارت أستغراب الفتاتين . " طبعا يا روشيل , أنا أعتقد أن اللياقة لا تقتصر على فئة معينة من البشر , من الواجب أن تكون معاملتك طيبة مع الجميع". أحست كولبي بسعادة غامرة لأن بيللا أختارت الوقوف الى جانبها ,أما روشيل فتلون وجهها بحمرة الغضب , ترددت قليلا , لكنها عادت لتهاجم كولبي بطريقة أخرى. " أريد موافقتك يا بيللا على الطريقة التي نسقت بها الزهور , طبعا عندما يتسنى لك الوقت لذلك , أمضيت وقتا طويلا في ترتيبها , وأعتقد أنها ستعجبك , فهي تختلف تماما عن الأسلوب الفوضوي الذي يستعمله بعض الناس". ونظرت الى كولبي بسخرية , وأنقذ الموقف التفجر , صوت سوزان الذي وصلهن مرحا من الشرفة: " تعالي يا أمي , لا بد أن تري ماذا فعلت روشيل". وكادت بيللا تصرخ أنزعاجا! كيف أستطاعت روشيل أن تكسب كل هذا الحب والتقدير من أبنتها! ربما يعود ذلك الى حاجة سوزان الى رفيقة ,وروشيل ذكية فعلا في تعاملها معها. اليوم تشعر بيللا بنفسها متعبة مسنة , يغلفها خمول شديد يسبق عادة حالات الصداع التي صارت تنتابها أكثر فأكثر. وأبتسمت بيللا لكولبي وحاولت أن تضع في عينيها كل محبتها لها قبل أن تنصرف برفقة ,وتابعتهما كولبي بنظراتها وهي تعض على شفتها السفلى , روشيل لا تطيقها , وسوزان تبدي تجاهها لا مبالاة واضحة , ودارت متضايق منها ,فماذا بقي لها بعد ذلك؟ وأيقظها من شرودها ضجيج بوكا الذي كان يتمرغ على العشب قريبا منها , أحس الصبي بحزنها فحاول جهده التخفيف عنها بحركات مضحكة ,جاء برفقة صديقه كولبار جو لتسليتها وجو هذا لم يكن ألا طائرا بريا من نوع الأمو( طائر أسترالي يشبه النعامة لكنه أصغر منها بقليل) لم يعرف أحد كيف تمكن بوكا من تحويله الى حيوان أليف ,ولا كيف أصبحا من أقرب الأصدقاء. فعلا تمكن الصغير من رفع معنوياتها , فشاركته ضحكه ولعبه. " ما رأيك في نزهة يا بوكا؟". وأشرق وجهه على الفور: " طبعا موافق يا آنستي , سأدلك على أمكنة جديدة رائعة الجمال". وأنطلقا معا على ظهر سورشا , ولم تتوقع كولبي أن تكون الرحلة من أروع وأغرب ما قامت به حتى الآن, أخذها بوكا الى التلال الحمراء , المليئة بالمغارات الصغيرة والتي يعتبرها السكان الأصليون أرضهم المقدسة , عندما كانت طفلة , كانت كولبي تخاف المرور في هذه المنطقة ليلا , هناك شيء ما ينبع منها يجعل الشعر يقف على رأسها , الأصليون يلقبونها أرض الأرواح الحية ويستطيع المرء أن يصدق ذلك بسهولة , ففي الليل كانت الأضواء تتلاعب فوق التلال وكأن شبحا خفيا يلهو ينقلها من مكان الى آخر لأخافة من تسول له نفسه الأقتراب من التلال السحرية قد تكون هذه الأضواء نتيجة بعض العوامل الطبيعية , لكن من المخيف حقا مشاهدتها , وكانت كولبي سعيدة جدا لأن الشمس كانت تغرق في تلك اللحظات كل الزوايا وأخذت كولبي بنصيحة بوكا فربطت فرسها الى شجرة قريبة وتسلقت معه التلال سيرا على الأقدام لكنها لم تتمالك نفسها من أن تهمس في أذنه: " أتمنى ألا تكون هناك ثعابين سامة في الجوار يا بوكا!". أبتسم بوكا وقادها الى مغارة واسعة تناثرت على أرضها جلود الثعابين ,وعرفت كولبي فورا أن هذا هو المكان الذي تغير فيه الثعابين جلدها سنويا , أراد الصغير أن يمازحها يعدما شعر بخوفها وعندما ألتفتت اليه لتؤنبه على ما فعل أنفجر ضاحكا , وفر الى المغارة المجاورة , فتبعته وكاد رأسها يصطدم بالمدخل المنخفض , وفي الداخل رأت كولبي ممرا في الصخر يؤدي الى مغارة أخرى , ومر بوكا من الفتحة وساعدها لتلحق به ولم تتمالك كولبي نفسها من التفكير بأن دارت لا يستطيع أدخال جسمه القوي في هذه الفتحة الصغيرة , وعندما وصلت كولبي الى المغارة الثانية شهقت دهشة , فالجدران الصخرية كانت مزينة بلوحات بدائية غريبة ملونة بظلال الأرض بعض الوجوه على الجدران كانت تتفحصها بشكل مخيف , عرفت أنها تمثل الأرواح الشريرة ,عندما رأت ألسنتها الحمراء تتدلى من شفاه بيضاء , أما الأيدي والأرجل فكانت تشبه أطراف الهياكل العظمية مع فرق واحد , هو وجود مخالب حيوانية بدل الأظافر. وفي مواجهة هذه الأرواح الشريرة كان يقف المحاربون الشجعان الذين يدافعون عن الخير تحت حماية الأرواح الصالحة ,وعلى عرض السقف تلوى رسم ثعبان ضخم رفع رأسه مهددا , وتجول بوكا بثقة في أرجاء المغارة وكأنه بائع لوحات يعرض بضائعه على مشتر ثري , كان يدلها على الرسوم ويشرح لها معانيا بأطلاع يستغرب المرء توفره في صبي صغير. لأجيال عدة ساهم السكان الأصليون المحافظة على هذا المعرض البدائي , ولذا مشت كولبي بصمت وأحترام قرب بوكا وهي تمرر يدها بين وقت وآخر على الصفحات الصخرية وبعد فترة ألتفتت الى بوكا لتقول له بأنفعال وأهتمام: " والآن عد كل ما قلته من البداية". وأبتسم بوكا فخورا بتراثه العريق , وسعيدا لأن الآنسة الشابة قدرت معنى الثقة التي منحها أياها عندما أصطحبها الى الأرض المقدسة , أرض أجداده . فور عودتهما الى المنزل الكبير طالعهما مشهد غريب , كانت روشيل شاحبة اللون , زائغة النظرات , تستند الى حائط المنزل , وأمامها كولبار جو يحدق فيها بثبات , ما هي المدة التي قضتها يا ترى في هذا الوضع , لا أحد يعرف ؟ وتحركت كولبي بسرعة توجه أوامرها الى بوكا. " هيا يا بوكا أستدعي جو , الآنسة خائفة , كن حذرا في تحركاتك". كانت كولبي تعرف جيدا أن غضب الأمو قد تكون خطرا فرفسته تعادل قوتها رفسة البغال , وأنصاع بوكا للطلب بسرعة , فأستدعى صديقه بلهجته الوطنية , أستجاب الطائر للنداء وأنطفأ بريق الخطر في عينيه وهو يلقي رأسه بدلال فوق كتف بوكا , أسرعت كولبي الى روشيل معتذرة , هي مسؤولة عن بوكا , وبالتالي عن الأمو. " آسفة يا روشيل". " طبعا أنت آسفة أيتها الفتاة اللئيمة , أنت تحاولين الأنتقام مني لما قلته أمس , تسمرت هنا حوال عشرين دقيقة وأنا خائفة من رفسة تصيبني في الرأس أو أسوأ من ذلك , كنت خائفة من الصراخ لطلب النجدة , حتى لا أثير حفيظة هذا الحيوان اللعين , أنه يستحق القتل". وأخذت روشيل تصرخ وتتوعد , أما كولبي فأخذت تتكلم بحذر وهي تحاول المحافظة على هدوء أعصابها قدر المستطاع . " أهدأي يا روشيل أؤكد لك أنك لم تكوني بخطر". " تؤكدين ماذا أيتها اللعينة؟". ورفعت يدها وصفعتها بقوة ,لم تكن كولبي تنتظر ردة الفعل هذه , فسقطت أرضا وأصطدمت مؤخرة رأسها بأحجار الحديقة أقترب الأمو من راشيل مهددا , أما بوكا فتسمر مكانه هلعا يحدق في كولبي , كانت فاقدة الوعي لا تتحرك وقد تحول لونها الى لون بنفسج الصحراء , ووقع عليه الأمر كالصاعقة فأخذ يصرخ عاليا : " الآنسة فارقت الحياة". وركض يائسا بأتجاه المنزل الكبير , برغم أنه كان ممنوعا من دخوله ,ولما لم يجد سيده هناك , أسرع خارجا ولم يتوقف حتى أستراحت عيناه أخيرا على دارت وستيفت يخرجان من الأسطبل. بعد لحظات ألتف كل سكان المنزل الكبير حول كولبي , بعدما سمعوا جميعهم عويل بوكا ونقل دارت بصره بين كولبي وروشيل التي تسمرت مكانها كصخرة , حتى نسيت وجود الأمو صفق دارت بيديه فأبتعد الحيوان عنها , وركع على ركبتيه ليفحص كولبي عن قرب , كانت قد أستعادت وعيها, وأن كانت ما تزال تحت تأثير الصدمة , رفعت اليه عينيها الخضراوين فلفتها الأهتمام القلق الواضح على وجهه فقالت باسمة قبل أن يغمى عليها مجددا : " لا يعجبني أصدقاؤك". لم تشعر روشيل في حياتها بالحرج الذي كان يمزقها في تلك اللحظة , أنطلقت في دفاع مستميت عن نفسها وهي تمد يدها الى سوزان طلبا للنجدة , وأحمر وجهها أنفعالا: " أنه الأمو , أخافني وسمرني في مكاني لأكثر من نصف ساعة , لم يتحرك حتى جاءت كولبي وبوكا , صحيح أنها صرفته بعيدا عني ,لكنها كانت قليلة الأدب معي , كنت مضطربة لدرجة لم أعرف معها ماذا حصل بعد ذلك". ووضعت يديها على وجهها وأنفجرت في بكاء عنيف , لكن أحدا لم يهتم بها , يالكولبي اللعينة! كيف كان بأمكانها أن تتنبأ بأنها ستسقط أرضا وتصدم رأسها بحجر , يا له من موقف مزعج. مرر دارت أصابعه في الخصلات النارية بحثا عن أي ورم تكون قد تركته الصدمة,فوجد جرحا صغيرا لا أهمية له , حملها بين ذراعيه وسار بها الى المنزل . وقطعت بيللا الصمت لتطمئنهم جميعا : " لا تخافوا مجرد رضوض بسيطة ,سأتصل بمقر الطبيب المتجول لأسأله عما يجب علي فعله في هذه الحالة , سأطمئن أكثر بعد ذلك". وتبعوا جميعهم دارت بصمت الى داخل المنزل. عندما عادت كولبي الى وعيها , شعرت بألم بسيط في أعلى عنقها أنتقل تدريجيا ليضع غشاوة على عينيها , وفي لحظة أسترجعت كل تفاصيل الحادث,رفعت رأسها ببطء فرأت دارت يدخل من الباب ووراءه بيللا تبدو متعبة , لكن سرعان ما أشرق وجهها عندما رأت كولبي جالسة في فراشها. أستيقظت يا أبنتي العزيزة ؟ هل تشعرين بتحسن؟ يبدو عليك ذلك". " نعم أنا أحسن بكثير , شكرا لك يا عمتي بيللا". وأنتبهت كولبي للمرة الأولى أنها ترتدي قميص نومها البرتقالي المنخفض لدى فتحة الصدر , فغرقت أكثر تحت الغطاء , أقترب دارت من الجهة اليسرى من سريرها وفي يده حبتين صغيرتين ,وطلب منها الجلوس مجددا. " هيا , أبلعي هاتين الحبتين". " وما هذا؟". " لا تسأليني , أسألي الطبيب". قالها ببرود ,فتدخلت بيللا كعادتها لترطب الأجواء : " هذه الحبوب تحمل الرقم ثمانية وعشرين يا كولبي , ولا أدري ما هي". وسأل دارت كولبي ساخرا : " هل أنت مطمئنة الآن؟". ضحكت كولبي وتناولت الحبتين. " لا , لكنني لا أبالي , أعتقد أن الطبيب يفهم أكثر مني في هذه الأمور". كنغارا ,ككل المزارع في هذه المنطقة النائية , كانت مجهزة بمختلف أنواع الأدوية , وكانت الوصفات الطبية تتم هاتفيا بواسطة أرقام معينة تلصق بالدواء , فيعطي الطبيب رقم الدواء الواجب أستعماله في حال لم يتمكن من الوصول الى مريضه في الوقت المناسب , وقد برهنت هذه الطريقة عن نجاح أكيد. أعادت بيللا ترتيب الوسائد وراء ظهر كولبي: " بوكا جاء لزيارتك منذ دقائق قليلة , كان الطفل المسكين مضطربا , أنه يحبك كثيرا يا كولبي , سأناديه بعد قليل ليراك , لم يصدق بعد أنك بخير". وتبادلتا الأبتسام , ألتفتت بيللا الى دارت الذي ظل صامتا يتفحص وجه كولبي الشاحب. " أعتقد أنك تريد التحدث مع كولبي يا دارت , سأترككما معا , وسأرسل لك عشاء خفيفا يا كولبي , لا تحاولي النهوض من فراشك". وأغلقت وراءها الباب قبل أن تعلق كولبي بكلمة واحدة أرغمها دارت على الأسترخاء في فراشها وجلس الى جانبها ينظر اليها عاقد الحاجبين: " حسنا يا دارت ,ما الأمر هذه المرة ؟ هل ضايقت صديقتك العزيزة؟". " أخبريني يما حصل , سمعت رواية روشيل ,وثرثرة بوكا , وأنا الآن بأنتظار ما ستقولين". " وهل ستصدقني يا دارت لاند كينغ". " ربما". " لا أعرف من أين أبدأ". " من البداية". أغمضت كولبي عينيها , آه لو يعرف كم يخفق قلبها في هذه اللحظة , أنها تحبه! أستغرقتها أفكارها لدقائق قبل أن تفتح عينيها أخيرا , لترى أبتسامة دارت الحانية: " من حسن حظي أنني أخذت أجازة اليوم , هل عليّ أن أنتظر النهار بطوله كي أسحب منك بضع كلمات؟". " الأمر ليس بهذه الأهمية يا دارت , كانت روشيل خائفة لدرجة أنفجر معها غضبها في أول وجه رأته , وصادف أنني كنت ذاك الشخص , أنا آسفة جدا لأنك لم تكن أنت مكاني ". " ألم تسخري منها , أعرف طبعك الناري". " لا , طلبت منها أن تهدأ فقط , وأؤكد لك أنني كنت أسفة جدا لما حصل لها , لكنني لم أعد آسفة الآن , قبضتها حديدية فعلا وكأنها من عائلة كينغ". " ليس لها الحق بضربك". " أنت فعلت مثلها تماما , هل نسيت؟". " لا , لكن الأمر يختلف معي". وضحك عاليا , فأغلقت كولبي عينيها ثانية , لا تدري ما بها ,أنها مضطربة جدا , لا بد أنه أثر الضربة , وأحست كولبي بقبلة رقيقة على وجهها فأرتجفت بعنف لملمس شفتيه. " آه يا دارت , لماذا فعلت ذلك؟". أبتسم ساخرا بأنفعالها: " لو كنت أعلم أنك ستتصرفين هكذا لما قبلتك , سأتركك الآن لترتاحي , سأعود لأراك لاحقا". وقبل أن يخرج من الغرفة توقف قليلا عند الباب ليقول لها: " صديقتي العزيزة كما تسمينها يا كولبي , عادت الى منزلها , طلبت من ستيفن مرافقتها , كانت منزعجة جدا وكذلك بيللا , آه من النساء!". تعليقه ذكرها بالعم سيروس , فأغرقت في الضحك.
9_ المطاردة
*********************
حشد الصيف كل قوته ليغرق الأرض بموجة من الحر الشديد , القطيع بمعظمه نقل الى أسواق أدبيلابيد ليباع هناك قبل أن توهن الحرارة قوته ونشاطه , فأشهر الصيف في المناطق الداخلية من القارة الأسترالية تمارس قسوتها على الأنسان والحيوان معا ولذا كان على الرجال نقل ما تبقى من القطيع من المناطق التي جفت مياهها الى واحات أخرى , وذلك في الشاحنات لتتجنب الماشية الأرهاق والعطش. وكان الرجال يعملون من الصباح الباكر وحتى ساعة متأخرة من المساء , ففي ساعات النهار كانوا ينقلون الثيران الكبيرة وينتظروت الليل ونسائمه المنعشة لنقل الأبقار وعجولها. ومع مرور الأيام أستقرت نساء البيت الكبير في نظام روتيني يومي , ووزعن ساعات النهار بين الأهتمام بشؤون المنزل والأعتناء بالحديقة , والأشراف على الدكان التجاري الخاص بالعمال , وتولت كولبي وسوزان مهمة تموين الكان الصغير عوضا عن مايك الذي أستغرقه عمله اليومي الشاق. كانت الفتاتان منشغلتين تماما في ترتيب دفعة البضائع الجديدة التي جلبها الطيار الشاب بوب غافين ,وكان لا بد من تسجيل كل شيء في الدفاتر , الثياب والمواد الغذائية , ومستحضرات الغسيل ,والكتب والأسطوانات وتوقفت كولبي ضاحكة أمام مجموعة القمصان التي طلبها العمال, فهم كمعظم الناس الملونين يحبون الألوان الصارخة , وكلما كان اللون فاقعا كلما كلن الأقبال عليه أكبر , ويبقى اللون الأحمر الناري هو الأكثر شعبية , ويليه البرتقالي وصحيح أن قمصان العمل والسراويل الكاكية كانت تخاط في المزرعة وتؤمن للعمال مجانا , ألا أنهم يفضلون النوع الأكثر ترفا الذي يحصلون عليه من دكان المزرعة ودهشت كولبي للدقة والفعالية والسرعة التي تعمل بها سوزان , فهي تتصرف في المنزل عكس ذلك تماما. وكأن سوزان أحست بم يجول في خاطر كولبي , فرفعت رأها مبتسمة : " كنت أحلم دائما بأن أصبح ممرضة". " وما الذي منعك من تحقيق هذه الأمنية؟". " لا أملك المال الكافي لذلك ! ومن جهة اخرى لا أستطيع أن أترك أمي وحدها هنا , أنها ليست مزارعة برغم أنها تحاول جهدها لتكون كذلك". ورفعت سوزان يدها بعصبية كأنها تريد أن تطرد هذه الأمنية من رأسها : " ما فائدة الحديث عن كل هذا أنا لا أستطيع أن أفعل شيئا!". " بل تستطيعين أن تفعلي الكثير , لم يفت الأوان بعد , هل تكلمت مع دارت بهذا الشأن". " دارت!.... يا ألهي ... طبعا لا , أريد أن أبوح لك بسر يا كولبي ,كنت أخاف جدا من زوج أم , وكذلك ستيفن , وجزء من ذلك ما زال يلازمني عندما أتحدث الى دارت , أنه أبن العم سيروس". ولم تصدق كولبي ما سمعت: " آه يا سوزان ,كيف يمكنك النظر ال دارت هكذا , أنه يختلف عن العم سيروس , دارت أنسان بكل معنى الكلمة". " أعلم , لم تفهمي قصدي جيجا ,زوج أمي كان أيضا طيبا في معاملتنا , لكن على طريقته الخاصة , وفي الحقيقة حاول جهده أن يكسب ثقتنا , لكننا كأولاد المدن كنا نشعر بالخجل وبعدم الثقة بالنفس, لم يستطع العم سيروس أن يفهمنا , أما بالنسبة لدارت , فالأمر مختلف أعترف بذلك , لكن عليك أن تعترفي أنت أيضا أن لدارت شخصية مميزة أجد معها صعوبة في أن أطلب منه أي شيء , حين أتكلم معه أتلعثم أو أجيب بعنف وجفاف". وخفضت سوزان نظرها لتتابع بشيء من الخجل: " أعتقد أنك تعرفين أننا لا نملك مالا خاصا بنا , لكننا لسنا بحاجة اليه في أي حال ,دارت يتكفل بكل أمورنا". " ما المشكلة أذن؟". "يبدو يا عزيزتي كولبي أنك لم تسمعي ما قلت , أريد أن أصبح ممرضة والأيام تمر بسرعة , لم أعد صغيرة , أنا في الثامنة عشرة , أي أنني تجاوزت السن المطلوبة للسنة الأولى". ونظرت الى كولبي بأعجاب قبل أن تكمل حديثها: " الحياة التي نعيشها شديدة القساوة يا كولبي ,ولا يستطيع تحملها ألا الأقوياء , أنت جزء من هذه الأرض وتنتمين اليها بكل جوارحك , على المرء أن يكون أعمى كي لا يرى ذلك , صحيح أنك كنت جميلة جدا عندما جئت الى هنا لكنك الآن أكثر فتنة وكأن الطبيعة رحبت بعودتك ,الى أحضانها بأن سكبت عليك كل أشراقها ودفئها , هذه البلاد بقسوتها وصمتها المخيف , ومساحاتها الشاسعة , لا ترحم ألا الرجال الذين يوازونها صلابة , أنا لم أخلق لها , وكذلك والدتي , رغم أنها تدعي العكس ,أما ستيفن فيعيش هنا أسعد أيام حياته". " ربما كنت على حق يا سوزان , لكنني لا أرى سببا يدعوك الى تحمل كل هذا". وترددت قليلا قبل أن تتابع قائلة: " هل تسمحين بأن أكلم دارت بهذا الشأن؟ لا يمكن أن تتوقعي منه أن يكون قادرا على قراءة الأفكار , أنا متأكدة أنه لن يقف في طريقك , بل أنا واثقة أنه سيساعدك ماديا". " حسنا يا كولبي تكلمي معه أذا كنت ترين ذلك مناسبا , لكن روشيل قالت....". وتوقفت فجأة عن الكلام ,فأسرعت كولبي لمساعدتها : " نعم ؟ روشيل قالت ماذا؟". " أنسي الموضوع يا كولبي , لا يهم ما قالته روشيل , أعتقد بأنني سأكون ممرضة ممتازة". " لا شك في ذلك , أتركي الأمر لي , سأتحدث الى دارت في أقرب فرصة ممكنة". ودخل بن علهما في تلك اللحظة , رفع قبعته عن رأسه ليحييهما بأحترام: " صباح الخير , آسف لأنني قطعت عليكما الحديث , أعذراني , دقيقة واحدة وسأخرج". وتوجه فورا الى الغرفة الخلفية ليعود بعد قليل حاملا بندقية من عيار 22 , أحنى لهما رأسه بسرعة وهرول خارجا. رفعت سوزان كتفيها بأشمئزاز : " أعتقد أنه ذاهب لتنفيذ عملية قتل جديدة". " نحن بحاجة الى اللحم يا سوزان , بن يستطيع أن يقتل العجلة بطلقة واحدة , أنها طبيعة الحياة الحياة هنا , ولا يستطيع المرء أن يكون شديد الحساسية في هذه الأمور وألا مات جوعا". " أعلم يا كولبي ,ولا استطيع الأدعاء أنني أحب أن أكون نباتية". وألقت سوزان نظرة أخيرة على الغرفة الواسعة : " أعتقد أننا أنتهينا من ترتيب الشحنة الجديدة , أليس كذلك يا كولبي؟". " نعم". تمتمت كولبي بشرود وذهنهاكان منشغلا الآن بما ستقوله لدارت , أغلقت سوزان الدكان وعادت الفتاتان الى المنزل. أنتظرت كولبي نهاية الأسبوع قبل أن تحدث دارت بشأن سوزان , أرادت أن تنتهز أول فرصة يعود فيها باكرا الى المنزل لقضاء أمسية هادئة وما كاد دارت يفعل ذلك حتى لحقت به الى الشرفة تحمل له كوبا من الشراب المتعش ., مناورتها الطفولية هذه أكتشفها دارت بسرعة: " حسنا يا كولبي , ما هو مطلبك هذه المرة؟". " كيف عرفت؟". نظر اليها ضاحكا وهو يقول مداعبا : " هيا يا عزيزتي أطلقي نيرانك". وقفز قلب كولبي فرحا عندما سمعته يناديها يا عزيزتي , لكنها تمالكت نفسها بسرعة: " الأمر يتعلق بسوزان". ومرت في عينيه الواسعتين لمحة أهتمام سرعان ما أنطفأت : " حقا ؟ تكلمي يا صغيرتي , ليس من عادتك التلعثم في الكلام". " سوزان تريد أن تصبح ممرضة , ومن حقها أن يفسح لها المجال لتحقيق طموحها ". " طبعا!". " أنت موافق أذن". ولم تصدق كولبي أنها فازت بهذه السرعة , فرفعت رأسها تتفحص وجهه طمأنتها أبتسامته: " طبعا يا عزيزتي أوافق , هل كنت تظنين عكس ذلك؟". وأمسك يدها بقوة , بعدما توقفت نظراته لحظات طويلة على بشرتها الذهبية : " تعالي معي لنقوم بنزهة قصيرة يا صغيرتي". وكادت كولبي تضحك عاليا وهي تبسط يدها الصغيرة في قبضته , دعوته لها كانت أمرا أكثر منها دعوة نزهة. وتعلقت عيناها بقامته الطويلة ,وشعرت بالدفء يغمرها وهي تفكر بهذه العلاقة الجديدة بينهما. دارت آه دارت , وأعتصر قلبها ألما. سارا بصمت , لم يرد أحد منهما أن يعكر سكون تلك الأمسية الرائعة , في ضوء القمر بدت التلال قريبة لدرجة يشعر معها المرء كأنه يستطيع أن يمد يده ليلمسها , كان الهواء عابقا بأريج الزهور , ومن البعيد تناهت أليهما تمتمة طاحونة الهواء , وهمهمة الماشية المنتشرة على التلال. وأحست كولبي براحة عميقة , فتنهدت عاليا , وأرخى دارت يده على كتفها وهو يقول بحب وفخر: " أنها أرض رائعة يا كولبي!". أبتسمت له وأنعكس في عينيها شعاع القمر : " أنها أرض للرجال فقط أليس كذلك يا دارت؟". " أننا نحاول أن نجعلها صالحة للنساء أيضا , الرجل قد يقوم بأي شيء عندما يجد المرأة المناسبة , والمرأة بدورها ستحاول أن تتغلب على الشعور الطاغي بالوحدة من أجل الرجل الذي تحب , وبعض النساء لا يشعرن بها على الأطلاق". ونظر اليها بحنان , لكنه سارع الى تغيير الموضوع عندما أحس أنه سيضعف أمام هذه الطفلة التي كبرت بسرعة. " الآن ,ماذا كنت تريدين أن أفعل بشأن سوزان؟ لماذا لم تكلمني هي بنفسها في هذا الشأن؟". " أعتقد أنها لم ترد أزعاجك , أستغرقك العمل كثيرا في الأسابيع القليلة الماضية , أما أنا فعرفت بالصدفة أنها تحلم بأن تصبح ممرضة , هذا كل شيء , أعتقد أنها تريد أن تبدأ الدراسة في أقرب فرصة ممكنة , أنها ليست مزارعة , الناس لا يستطيعون كلهم تحمل هذه الحياة القاسية ,ألم تشعر بذلك يا دارت؟". " لا يبدو لي أنك تواجهين أي مشاكل هنا!". ردت بعفوية وكأنها تريد أن تعبر دفعة واحدة عن كل ما تحمله من حب للأرض هذه: " حبها يجري في عروقي , عرفتها طفلة فتعلقت بها , لم أنسها أبدا , كنت دائما أحلم باليوم الذي أعود فيه الى كنغارا". مرر دارت أصابعه في خصلاتها النارية , ثم رفع وجهها اليه , فأحست كولبي وكأن تيارا كهربائيا يمر في جسمها , جمدت في مكانها غير قادرة على القيام بأي حركة , وفضح وجهها المشرق أضطرابها , أما دارت فلم يظهر عليه أي أنفعال , أحاط كتفيها بذراعيه وتابعا السير ومرة ثانية غيّر مجرى الحديث ليعود به الى سوزان: " ما سأقوله الآن لا يعرف به أحد الا بيللا ,ولذا أرجو أن تبقيه طي الكتمان يا كولبي , لقد خصصت لسوزان وستيفن مبلغا محترما من المال , لا يستطيعان التصرف به ألا عندما يبلغان الخامسة والعرين من العمر , حددت السن هذه لأنني أؤمن بأن المال الذي يأتي بسهولة وفي سن مبكرة يذهب بسرعة , لم أرد أن يعرف ستيفن وسوزان بالأمر ألا في الوقت المناسب , ستيفن يعمل الآن بجد ليبني مستقبله , أنه شاب طيب وصلب , أما بالنسبة الى سوزان فالوضع مختلف , لم تستطع أن تتأقلم مع هذه الحياة القاسية , لا بد أن بيللا شعرت بذلك , لكنها كعادتها لم تقل شيئا , تريد سوزان أن تصبح ممرضة , حسنا , سأعطيها المبلغ اللازم لذلك وسأؤمن لها مكانا للأقامة في المدينة تعيش فيه أيام الأسبوع , وتقضي عطلتها الأسبوعية معنا ,شرطي الوحيد أن تسكن سوزان في برسبان فلي أقارب هناك يسهرون عليها. وتنفست كولبي الصعداء : " كم أنا سعيدة لأنك وافقتيا دارت , كنت أعلم أنك لن ترفض". " وهل كان هناك سبب يمنعني من الموافقة؟ لا يمكنكم أن تتوقعوا مني قراءة فكر فتاة شابة , كل ما لاحظته على سوزان أنها تميل الى السوداوية والمزاجية , ربما ستتغير الآن , في أي حال سأكلمها قريبا , هل يوافقك هذا يا آنسة كينغ؟". ونظرت اليه كولبي وفي عينيها ثقة كاملة وعميقة: " نعم يا دارت". ولم تستطع أن تبعد نظراتها عنه ,كانت سعيدة جدا , أشرق وجهها الشاب وكأن القمر أعارها شيئا من تألقه. " هل تحاولين جعلي خاتما حول أصبعك يا كولبي؟". ولمعت عيناها بشقاوة فيها مزيج من الطفولة والأنوثة المتفتحة : " لا أدري ماذا أوحى لك بهذه الفكرة ! وهل أستطيع أن أفعل ذلك؟". " ربما ". كان صوت دارت حادا وفيه الكثير من الدعابة , للحظة أحست كولبي أنها غير قادرة على تحمل نظراته , حتى الهواء بدا محملا بقوى جديدة ضغطت على أعصابها . وطغى على صوت خفقان قلب كولبي ,وقع حوافر حصان يقترب منهما بسرعة , وتغير وجه دارت وهو يلتفت بأتجاه الفارس. " لا بد أنه واحد من العمال , شيء ما حدث". ووقفا بصمت ينتظران أن يقترب منهما الفارس كي يتبينا هويته. " أنه ستيفن". وبعد ثوان كان يقفز عن جواده وهو يلهث بسرعة : " دارت دينغو هجم مجددا , قبل قليل وجد مايك بقايا عجلتين صغيرتين أفترسهما دينغو بوحشية". فأجابه دارت بعنف: " حسنا , هذا آخر ما سنسمعه عن هذا الحيوان المتعطش للدماء , سأجمع فريقا من الرجال للبحث عنه , علينا أن نقتل دينغو قبل بزوغ الفجر , هل كان بن برفقتك؟". وتصبب العرق من جبين ستيفن: " لا ,فقط مايك وبعض العمال الصغار". " أبحث عن بن , سأنتظركما أمام المنزل الكبير , سأرافقكما للحد من أعتداءات هذا الحيوان المفترس , تكفي المرات العديدة التي تمكن فيها من الأفلات". وأسرع دارت بأتجاه المنزل , فركضت كولبي لتلحق به : " دارت , أرجوك دعني أرافقك". "لا". قالها بحزن , فأصرت بعصبية: " لن أضايقك , أرجوك يا دارت , سأساعدك , ألا تثق بي؟". توقف فجأة , وعندما نظر الى وجهها الصغير الغاضب , أبتسم مرغمافعرفت بغريزتها الأنثوية , أنها أنتصرت عليه. " طبعا أثق بك يا كولبي ,حسنا , تستطيعين مرافقتي , والله وحده يعلم لماذا وافقت على هذا الأمر!". وتضايق دارت من ضعفه العابر , لكنها أسرعت قبل أن يغير رأيه: " شكرا عزيزي دارت , سأذهب فورا لأبلغ العمة بيللا". وطارت كولبي بخفة الفراشات ولم تتوقف الا حين بلغت المنزل ,كانت بيللا وسوزان تطالعان بعض المجلات ,ورفعت بيللا رأسها بقلق. " ما بك يا كولبي , ماذا حدث؟". " دينغو هاجم القطيع مرة أخرى , سيخرج دارت لملاحقته وأنا أيضا". " هل وافق دارت على ذلك؟". وبدا القلق واضحا على وجه بيللا , صحيح أن لكولبي أرادة حديدية , لكنها لم تتوقع أبدا أن يستسلم لها دارت الذي كان دائما يحرص على حماية ومراقبة أبنة عمه. " نعم دارت وافق , ليست المرة الأولى التي أخرج فيها لصيد ذئب الدينغو , لكنني أظن أنها ستكون الأخيرة ". وهمست كولبي في أذن سوزان: " أعتقد أن ما كنت تريدينه سيتحقق قريبا , أنتظري قليلا وسترين بنفسك". وسمعت كولبي صوت دارت يناديها بلهجة آمرة , فطارت اليه حتى لا تغضبه , حركة خاطئة واحدة وسيأمرها بالبقاء في المنزل , كان الرجال الثلاثة بأنتظارهما , قفزت على فرسها بمهارة الفارسة المحترفة ,فصفر ستيفن أعجابا قبل أن يعلق ضاحكا: "يسعدني حقا أن ألتقيك مرة أخرى يا آنسة كينغ". فأجابه دارت بحدة قبل أن ينطلق بجواده : " أنها محظوظة فعلا لأنها هنا ". وتحركت كولبي وراء الرجال تستمع الى أحاديثه , دينغو , الذئب المتوحش المعروف بقوته وكره ,كان يشن هجومه دورية في شتى أنحاء المقاطعة تاركا وراءه أثرا داميا من العجول الميتة , ويقال أنه حاول أكثر من قتل الرجل الذي يقف في طريقه أحد العمال تمكن من أصابته برصاصة واحدة عند هجومه الأخير , لكن الذئب أستطاع الفرار ولجأ الى التلال ليسترجع قواه , حتى بن أعترف بأنه من المستحيل تقريبا القضاء على هذا الوحش البري ,نظرا لجرأته وسرعة تحركه. بعد خمس وثلاثين دقيقة وصلوا الى مخيم رعاة البقر , الذي أنتشر حوله القطيع يرعى بأسترخاء , نهض مايك من مكانه وأقترب مهم عابسا : "تمكنا من تحديد مكانه عدة مرات , لكننا لم نتمكن من القضاء عليه , صوت الرصاص سيخيف القطيع , فلا نعود نستطيع السيطرة عليه". ترجل دارت عن جواده وساعد كولبي على النزول عن فرسها. " على الأقل نحن الآن بينه وبين فريسته , أي أن هذا لمصلحتنا , سنحاول أن نطبق عليه من كافة الأتجاهات فور بزوغ الفجر". كان مايك ينظر الى كولبي وكأنه لا يصدق وجودها بينهم , لاحظ دارت التعبير الذي مر خطفا في عينيه , فأبتسم ساخرا: " أعرف, أنا نفسي أكاد لا أصدق أنني وافقت على أصطحابها معي". ودافعت كولبي عن نفسها: "أنا صيادة ماهرة يا مايك". وهب بن الى نجدتها : " نعم هي كذلك , ألست أنا أستاذها". " فلنأمل أن تتمكن الصغيرة من برهنة ذلك , هذه هي فرصتك الوحيدة يا عزيزتي , وحتى أتأكد من أنه لن يصيبك مكروه , سأبقيك بيني وبين ستيفن, أذهب أنت برفقة مايك سأعود بعد قليل أريد أن أتكلم قليلا مع الرجال". وتوجه دارت الى العمال , ليلقي أوامره عليهم , وبعد ساعة تقريبا سمع الجميع صوت رصاصة يشق سكون الليل وندت عن دارت شتيمة عنيفة : " يا ألهي لا بد أنه ستيفن , ألن أستطيع أبدا أن أجعل منه راعيا ماهرا؟". وقطع الصمت الثقيل صوت بن يقول بقلق: " القطيع....". وسمعوا كلهم صوت الحيوانات التي أخافها صوت الرصاص , فبدأت تركض كموج هادر يجرف كل شيء في طريقه ,ونظر دارت الى جسم أبنة عمه الرقيق : " يا ألهي كيف وافقت على مجيئك معنا!". " لا تخف , أنا لست لعبة من زجاج". ومن مكان قريب أرتفع صوت مايك صارخا: " ستيفن! لا تطلق رصاصة ثانية ! أين أنت... القطيع!". جاء الأنذار متأخرا , القطيع كان يهدر وراء قائده والعرق يتصبب منه خوفا وهلعا. وأحس ستيفن بالخطأ الذي أرتكبه , رأى دينغو فأطلق رصاصة أنذار , لقد نسي تماما وجود القطيع في حمى المطاردة , وتصبب العرق البارد من جبينه , أنه لن يصبح أبدا راعيا للبقر ,ولو بعد مليون سنة من التدريب ,دارت سيقتله لفعلته هذه , ها هو يراه الآن على صهوة جواده يمر أمام الثور القائد وهو يطلق الرصاص في العراء ,والرجال على الجوانب يلوحون بسياطهم في الهواء , وأجبر دارت الثور الهائج على تبديل مساره , وأخيرا أوقفه على بعد أميال قليلة من المخيم. أقترب مايك والعمال من القطيع الذي كان ما يزال يرتجف خوفا , وحاولو تهدئته بأصواتهم الآمرة . " أنتهى الأمر , الحمد لله!". صرخت كولبي ,لم تعد تستطيع أن تلعب دور الفتاة الهادئة المتملكة لأعصابها , ما زال ذهنها مشغولا بصورة دارت منقضا على القطيع الهائج , الخطر كان كبيرا , عجل واحد يستطيع أن يثير القطيع بأكمله بحركة واحدة. وبعد عشر دقائق عاد ستيفن شاحب اللون ,وقد طأطأ رأسه أرضا ,وقف صامتا أمام دارت الذي ترجل عن جواده ببطء , وبدا الهواء ثقيلا بالتوتر ,وساد الصمت لثوان أمتدت وكأنها ساعات , وأخيرا قطع دارت السكون ليقول بحدة: " أعتقد أنك تعلمت الدرس جيدا يا أبني , لذا لن أقول لك أكثر من هذا". وأعترض ستيفن فورا: " أصرخ يا دارت , أرجوك أنبني , أنا أستحق ذلك , هيا أضربني ,قم بأي شيء أرجوك ! أنا أستحق العقاب". " لا داع لذلك يا ستيفن , علنا أن تستعد لمتابعة المطاردة , سنتحرك عند بزوغ الفجر , سنتقاسم الحراسة طوال الليل". وأرخى دارت يده على كتف كولبي يهدئها لأنه أحس بأن جسمها ما زال يرتعش تأثرا , وأرتفع صوت مايك: " سأقوم أنا بنوبة الحراسة الأولى". فأستراح الجميع بأنتظار الصباح . فاجأهم الفجر وهم يشقون طريقهم وسط التلال بحثا عن دينغو , رآه بن الساعة الثالثة صباحا تقريبا وأنطلقوا فورا في أثره , كان الرجل العجوز يترجل عن جواده بين الحين والآخر ليلاحق الآثار التي تركها الحيوان على الأرض الندية. أرتفعت الشمس تدريجيا في السماء , حتى سارت تحرق ظهورهم بأشعتها اللاذعة , تقدم دارت وبن المجموعة , يحملان بندقيتين من نوع ونشتسر , مايك وستيفن لازما كولبي , واحد الى يمينها والآخر الى يسارها ليدافعا عنها في حال حدوث أي هجوم مفاجىء , كان دينغو في مكان قريب ,يتسابق معهم في رحلة الموت هذه , مرات عديدة تمكن من الأفلات من قبضتهم بمكر وحكمة , كان يختار فريسته في أرض وعرة , بحيث تصبح ملاحقته شبه مستحيلة وعلى طرف منطقة التلال الرملية شاهدوه للمرة الأولى , يا له من حيوان ضخم , قوي العضلات , أنه بحجم الأنسان تقريبا , لونه الأصفر البراق , والنقاط الحمراء على حنجرته فضحا مكانه. أطلق بن جواده بأقصى سرعة ,وشهر دارت بندقيته وحصانه الأسود يسابق الريح , ترددت طلقة دارت قوية في سكون الطبيعة فخر الحيوان أرضا من الرصاصة الأولى , وعندما وصل دارت وجده جثة هامدة. وأنتظرت المجموعة في مكانها عودة دارت الذي ذهب برفقة بن للبحث عن لورا أنثى دينغو , التي عرفها السكان الأصليون منذ عرفوا دينغو , ففي مملكة الحيون , كان دينغو من الفصائل النادرة التي تلازم أنثاها طوال العمر وفي حين ماتت قبله لا يتخذ شريكة أخرى , الوفاء الجرأة والذكاء هي كلها أبرز صفات هذا الحيوان ,وتمكنت لورا من الفرار , وأختفت في أعالي التلال , الطيور وحدها كانت تعرف مكانها , لكنها رفضت الأفصاح عنه. ونظر دارت الى بن: " أعتقد أننا أنهينا عملنا لهذا اليوم ,أليس كذلك؟". لم يكن وجه العجوز يعبر عن أي أنفعال: " نعم , سنضيع وقتنا أن حاولنا ملاحقة لورا". وأشار بيده الى أعلى التلال . " من الصعب عليها أن تبقى هناك بدون ذكرها الذي كان يؤمن لها الطعام والحماية". " فلنعد الى المزرعة أذن". أنتهى أمر دينغو وهو مسرور جدا لذلك , بقي عليه أن ينتظر رد فعل لورا , هل ستهاجم القطيع وحدها سيتبين ذلك , وعادا الى المجموعة المنتظرة بصمت . فسأل ستيفن بأهتمام: " هل عثرتما على لورا؟". " لا , يكفي أننا تمكنا اليوم من القضاء على دينغو , لورا حتى الآن لم تشكل خطرا على القطيع , ولا سننتظر ردة فعلها قبل القيام بأي هجوم". ولاحظ دارت أنفعال كولبي وتأثرها . " الحرارة أرتفعت كثير , كولبي سيعيدك ستيفن الى المنزل , أما نحن فسنذهب الى المزرعة , أشعر بحاجة قوية الى فنجان قهوة , ما رأيك يا مايك؟". " سأحضر القهوة بنفسي". وألتفت الى كولبي: " ما رأيك يا آنسة كينغ بمرافقتنا ". أحست كولبي أن مايك كان يراقبها طوال النهار بنظرات فيها معان أكثر من الأهتمام العابر بأبنة عم الرئيس: " لم أتلق منكم دعوة رسمية بهذا الشأن !". ضحك مايك عاليا وـألتفت الى دارت يطلب موافقته: " حسنا يا كولبي ,تستطيعين مرافقتنا شرط أن تحضري أنت بنفسك القهوة لنا". " أوافق على الشرط". وشكرت كولبي مايك بأبتسامة رقيقة , ونقل دارت بصره بينهما وهو يلوي فمه بسخرية , أبنة عمه الصغيرة تبدو اليوم برقة الزهور , كم هي جميلة ومشرقة! لن يكون مايك بشرا أن لم يلاحظ ذلك. وقطب دارت حاجبيه وهو في طريق عودتهم الى المزرعة.
10_ العاصفة
***************
قبل أسبوعين من حلول عيد رأس السنة , رافق دارت سوزان وبيللا الى بريسبان ليشرف على الترتيبات النهائية بشأن أقامة ودراسة سوزان , لم يتأخر بالوفاء بوعده بل ناقش بعد أيام قليلة مستقبل شقيقته الشابة وساعدها على الأفصاح عن رغباتها وطموحها بأنطلاق وصراحة , وعندما أحست سوزان أن حلمها سيتحقق أخيرا , تغيرت تماما وكأن عصا سحرية حولتها فجأة الى أمرأة ناضجة , أختفى كل أثر لمزاجيتها القديمة وصارت أكثر أتزانا ومرحا , أما بيللا فشعرت براحة عميقة , كانت السنة الفائتة من السنوات العصيبة في حياة أبنتها , حين يستقر دارت وولداها في حياتهم الخاصة المستقلة , ستقبل العرض الذي قدمه لها دارت وهو كناية عن شقة فخمة في أي مدينة تختارها في أديلاييد ربما , لها هناك الكثير من الأصدقاء , وخاصة صديقتها العزيزة ثيلما. غادروا جميعا المنزل من أوائل الأسبوع , ولن يعد دارت وبيللا قبل نهايته , ولذا أستغلت كولبي المناسبة لتتمتع بحريتها قدر المستطاع , لم يحاول ستيفن أو مايك الحد من تشردها الدائم في مختلف أرجاء المنطقة فمحاولة ستيفن اليتيمة باءت بالفشل , وتجاهلتها كولبي تماما , لا شعوريا أو بوعي تام , لم تكن الشابة تعترف ألا بسيد واحد , وبما أنه لم يكن هناك في تلك اللحظة ليمارس نفوذه عليها , كانت تتصرف كما يحلو لها , لم يكن يتركها تغيب عن عينيه لحظة واحدة. الأمسيات كانت تمر في جو شديد المرح , كان ستيفن ومايك يتسابقان لأنتزاع الضحكات منها , السيدة أيفانز المشرفة على شؤون المنزل وزوجها كانت ينامان في المنزل الكبير في غياب بيللا , وغالبا ما يتناولان العشاء مع المجموعة في جو بعيد عن الرسمية. وفي اليوم الثالث زال السحر , وذلك فور توقف سيارة روشيل تينانت أمام باب المنزل الكبير , كانت كولبي تستعد للخروج لنزهتها الصباحية على صهوة فرسها ,ومعها بوكا المصمم على تنفيذ أوامره بالسهر على الآنسة الشابة , وفور خروجها الى الشرفة رأت كولبي روشيل تترجل من سيارتها وهي في قمة أناقتها وجاذبيتها, توجهت روشيل فورا الى المنزل وتجاهلت تحية بوكا الصباحية , لتخاطب كولبي ببرودة ولا مبالاة. " هل أنت خارجة؟". وأحست كولبي بقلبها يغرق بين ضلوعها . " لا , ليس الآن يا روشيل , تفضلي سأقدم لك شرابا باردا". وصعدت روشيل الدرجات القليلة لتلحق بكولبي الى غرفة الجلوس: " هل وصل دارت بخير الى المدينة؟". " طبعا , توجهوا الى هناك بالطائرة". " أعرف , أنا على علم بكل ما يجري في هذا المنزل". لم تجبها كولبي بل توجهت فورا الى الثلاجة لتخرج منها شرابا باردا ,وتناولت روشيل الكوب وهي تبتسم بسخرية ,وراقبتها كولبي بصمت وهي تتساءل عن السبب وراء زيارة روشيل المفاجئة؟ هل جاءت يا ترى لتزعجها؟ ولم تطل روشيل المناورة , بل طرقت مباشرة الموضوع الذي أتت من أجله. " يبدو أن هواء الصحراء يلائمك جدا , يا للأسف ! كم شهر تبقى لك هنا؟ شهران ... ثلاثة؟". " سأبلغ الواحدة والعشرين في الخامس من شهر آذار (مارس) أذا كان يهمك الأمر يا روشيل؟". " كم أستعجل مجيء هذا اليوم , دارت يشعر بمسؤولية كبيرة أتجاهك , أعرف جيدا من أي نوع هو , أنه يفعل الشيء ذاته لسوزان الشابة , لكن وضعها يختلف عن وضعك". " في الحالتين الأمر لا يعنيك". وبدأت كولبي تفقد هدوءها , وشحب لونها قليلا , أما روشيل فحافظت على برودة أعصابها , وأبتسامتها الساخرة , وضعت كوبها على الطاولة وأحتد صوتها بتهديد مبطن: " طبعا الأمر يعنيني يا آنسة كينغ , لن يخيفني غضبك ولا يهمني أن رفعت صوتك بحدة , لا بد أنه خطر لك أنني ودارت على تفاهم تام ... تفاهم حدده وجودك المزعج في قيود عديدة , طبعا لا نستطيع التخطيط لمستقبلنا وأنت موجودة تحت هذا السقف , أنا لن أطيق وجودك معنا مهما كانت الظروف , ولا يمكن أن تكوني ساذجة لدرجة تفكرين معها عكس ذلك". وحاولت كولبي السيطرة على غضبها قدر الأمكان: " أعتقد أنك تبالغين يا روشيل , ربما كنت على تفاهم تام مع دارت , لكنه لا يحبك , أنا أكيدة من ذلك ". وتألقت عينا روشيل بشرارة نارية زادت من شحوب وجهها : " وكيف تعرفين ذلك أيتها المحتالة الصغيرة! في كل حال , سواء أحبني دارت أو لم يحبني , أنا الشخص الملائم له! الملائم لدارت ولكنغارا ! دارت يشبه والده تماما , كنغارا بحاجة الى سيدة , ودارت يريد أبنا ووريثا لكل أملاكه , وأنا أستطيع الجمع بين الأمرين معا ....وببراعة". " لا أعتقد أنك تستطيعين ذلك بدون مساعدة؟". قالتها كولبي بقوة , كان قلبها يعتصر ألما , روشيل على حق , دارت من الرجال الذين يعتبرون أنجاب طفل يكون وريثا لكل ما عمل من أجله , هو أفضل ما يتوجون به حياتهم , وروشيل كما قالت هي نفسها , من النوع الذي يتوقع المرء أن يتزوجه دارتلاند كينغ , رشيقة جذابة , ربة بيت ممتازة , بارعة , وكأن روشيل أحست بما يدور في أعماق كولبي : " أعتقد أنني أصبت الهدف أخيرا , نحن نفهم بعضنا الآن". وحاولت كولبي جاهدة السيطرة على رعشة يديها : " أنا لم أفهم شيئا بعد , فيما يختص بدارت , أعرف أنني أستطيع البقاء هنا الى الأبد , أنه لا يقول مثل هذه الأشياء بخفة , لكنني أعدك بأنني سأرحل من هنا فور تمكني من ذلك". ورقصت عينا روشيل فرحة بالأنتصار . " أنا أمرأة يا آنسة كينغ ,... أمرأة تعرف ماذا تريد , وكيف تحصل عليه ,وأنا أريد دارتلاند كينغ , الأمر بهذه البساطة ,لن أقبل بقائك هنا , ولا بمعاملتك السخيفة لدارت ,وكأنه بطل أو مثال أعلى". وتوقفت عيناها برهة على حمرة الخجل التي لونت وجه كولبي : " نعم تنظرين اليه وكأنه شخص مقدس ,هل تعتقدين بأننا لم نلاحظ ذلك؟ دارت أول من تنبه للأمر , ولا بد أنه يشعر بالحرج من جراء ذلك , طبعا لم يقل لك ذلك, نحن النساء نتعامل فيما بيننا بأسلوب آخر , لنتصارح أكثر ولا نستعمل الأساليب الملتوية لنقول رأينا". وصمتت قليلا لتراقب أثر كلماتها على وجه كولبي , ولا بد أن النتيجة أعجبتها لأنها تابعت قائلة: " من الأفضل أن أعترف بأنني لا أنوي الأنتظار حتى شهر آذار(مارس) , لنعلن خطوبتنا دارت وأنا , حاولي أختراع حجة ما للأبتعاد عن طريقنا , ما رأيك بأمتهان التمريض؟ قد تصلحين لذلك ! لا , ربما لن تصلحي لأي شيء , الى اللقاء ! كوني عاقلة يا كولبي وذلك لمصلحتنا مع". وخرجت روشيل مسرعة من غرفة الأستقبال , فأصطدمت ببوكا الذي كان يسترق السمع خلف الباب , كان من واجبه حماية الآنسة الصغيرة ,ومراقبته لها في تلك اللحظة كانت تنفيذا لأوامر سيده. أمسكت روشيل بكتفي بوكا وأخذت تهزه بعنف. " كيف سمحت لنفسك بدخول المنزل , أغرب عن وجهي فورا". ومن وراء شلالات الورد , ظهر فجأة كولبار جو , نظرت اليه روشيل نظرة واحدة وأسرعت بأتجاه سيارتها , أغلقت الباب بحدة , وأدارت محرك السيارة أسرع الحيوان الغاضب يلحق بها ,فقادت السيارة بسرعة خاطفة وصدمته ,طارت كولبي الى مكان الحادث , لم يكن بوكا يستطيع الوقوف على قدميه ,كان ينقل نظره بين صديقه الملقي على الأرض وبين وجه روشيل المتشنج غضبا وبين كولبي التي لم تكن كيف تصرف , وفجأة فر هاربا , وهو يصرخ عاليا على غرار السكان الأصلييت في المأتم. أنزلت روشيل زجاج السيارة لتنفث آخر سمومها: " أتمنى أن يكون هذا الحيوان اللعين قد لاقى حتفه , لن يجديك وضع اللوم علي , كان الأمر مجرد حادث بسيط , حاولي أن تتذكري ذلك يا حضرة الآنسة الصغيرة , أستعيني بأحد العمال ليخلصك من الجثة". وأنطلقت روشيل وهي تلعن عاليا الحيوان وكولبي وبوكا. وعندما أصبحت كولبي بمفردها , مررت يدها بخوف على جسم الحيوان المسكين , كان ما يزال حيا , لا بد أنه فقد الوعي لفترة بسيطة! ماذا تفعل الآن؟ ليس لديها أي خبرة في تقديم الأسعافات الأولية للحيوانات؟ وركضت فورا الى الأسطبل لتبحث عن أحد العمال , وبعد دقائق عادت برفقة أثنين منهما , لتجد كولبار جو واقفا على قوائمه يهز رأسه بأسى كبطل مهزوم. " يا ألهي, شكرا لك". وتنفست كولبي الصعداء , قبل أن تلتفت الى العاملين لتشكرهما بأبتسامة عرضة. وبعد ساعات ثلاث كان كولبار جو قد أسترد كامل عفيته , لكت بوكا ظل مختفيا , فلم يعرف أن صديقه العزيز ما زال حيا , وتوجهت كولبي الى الحظائر لتبحث عنه بعدما يئست من العثور عليه بمفردها , سألت عنه العمال كلهم , فكان الجواب دائما بالنفي , لم يره أحد منذ الصباح أقترب منها مايك متسائلا: " مابك يا كولبي؟ تبحثين عن بوكا؟ لا تقلقي غالبا ما يختفي ساعات طويلة في أحضان الطبيعة , سيعود قريبا". " الأمر يختلف هذه المرة يا مايك ,كولبار جو تعرض لحادث هذا الصباح, وبوكا يعتقد أن صديقه قضى حتفه". نزع مايك قبعته عن رأسه ليبعثر شعره بأنامله: " رددي ما قلته يا كولبي , لم أفهم شيئا , انت تتكلمين بسرعة". أخذت كولبي نفسا عميقا قبل أن تردد ببطء: " هذا الصباح مرت روشيل لزيارتي , لم تكن تريد شيئا , قطعت كل هذه المسافة لتقول لي مرحبا". لم تلاحظ كولبي النظرة المتفهمة التي مرت خاطفة في عيني مايك فتابعت حديثها بحزن: " ركض جو بأتجاه السارة فصدمته روشيل رغما عنها , هرب بوكا من مكان الحادث ولم أره بعد ذلك , أريد أن أخبره أن جو بخير". " يا لك من أنسانة حساسة يا كولبي! لا تقلقي , بوكا الصغير يستطيع الأعتناء بنفسه , وتضميد جراحه , سأخبر بن بالأمر". " شكرا يا مايك , سأمتطي سورشا وأذهب الى التلال الرملية , أنها مكان بوكا المفضل , لا أريده أن يبقى حزينا طوال النهار من أجل لا شيء". أبتسم لها مايك بحنان وهو ينظر عميقا في عينيها. " حسنا يا عزيزتي". وأنتبه فورا الى ما قال فأسرع يصلح خطأه: " حسنا يا آنسة كينغ". ألتفتت اليه كولبي باسمة: " أفضل العبارة الأولى يا مايك". وأنطلقت وهي تسمع ضحكاته ترن وراءها. " أراك هذا المساء يا آنسة كولبي". كان الحر شديدا جدا في التلال الرملية , لكن نسبة الرطوبة المنخفضة جعلت الجو محمولا , ترجلت كولبي عن فرسها , وربطتها الى شجرة قريبة لتبحث عن بوكا سيرا على الأقدام وتنقلت من مغارة الى أخرى وهي تنادي عاليا بأسمه أشعة الشمس كانت تلدغها بقسوة , رفعت قبعتها عن رأسها لتمسح العرق الذي أغرق جبينها, وبلل قميصها حتى ألتصق بجسمها , عليها أن تعود الى المنزل قريبا الجو ينذر بعاصفة قوية, لكن كيف ترجع الآن ! وبوكل! تستطيع أن تجد مخبأ في التلال , يقيها شر العاصفة والمطر , وبدأت البحث عن بوكا , ولن تتوقف الآن وهي مصرة على العثور عليه , وحدسها ينبئها أنه ليس بعيدا وعادت تصرخ أسمه عاليا , وتدريجيا لم تعد تسمع صوتها , الرياح أشتدت قوتها والطيور أخذت تحلق بفوضى منذرة بأقتراب العاصفة. وفجأة أنهمرت قطرات المطر بثقل لتتحول الى شلال غزير وصل الأرض بالسماء . أمتطت كولبي فرسها سورشا ,وطارت بها صوب التلال بحثا عن مغارة واسعة تأوي اليها ,لم كن تتوقع هذا التغير المفاجىء في الطقس , حتى الحرارة سقطت درجتها بسرعة غريبة فأحست كولبي بأوصالها ترتعش بردا , وعندماوصلت أخيرا الى هدفها , كانت ثيابها المبللة تزيدها بردا ورعشة. وترجلت كولبي عن فرسها في المغارة الكبيرة التي أختارتها , كانت سورشا رائعة فعلا , لم تتأثر بالعاصفة , بل ظلت على هدوئها وثباتها أخرت كولبي قطعة قماش جافة من سرج الفرس وأخذت تمسح بها جسم سورشا المبلل , يا ألهي كم تشعر بالبرد! عليها أن تشعل نارا , لديها علبة ثقاب في حقيبتها , وعلى الأرض هناك مجموعة جافة من الأعشاب اليابسة. وأنحنت كولبي لتشعل النار وأسنانها تصطك بردا , وأحست فجأة بظل أسود على باب المغارة حجب عنها ضوء النهار , لم تتحرك من مكانها , خفق قلبها بسرعة , وتجمع الخوف كله في عينيها ليحول لونهما الى الأخضر الداكن, وحملها دارت بين ذراعيه وكأنها دمية صغيرة. " ألن أستطيع أبدا أن أتركك وحدك؟ أنظري الى نفسك , أنت ترتعشين كطفلة لم تتجاوز بعد الثانية من العمر". وشهقت كولبي وهي تكاد لا تصدق وجوده قربها. " من أين أتيت يا دارت؟ لا أعرف كيف تفعل ذلك! كيف تمكنت من العثور علي ؟". " لن أدخل بالتفاصيل الآن , فلنقل أنها حاستي السادسة". وأبتعد عنها بعدما تأكد من أنها تستطيع الوقوف على قدميها وكطفلة صغيرة تمتمت بضعف ورقة: " الجو بارد جدا". " طبعا, كنت أعلم أنني لن أجدك سالمة في المنزل لدى عودتي , أكان عليك أن تخرجي وحدك في هذا الطقس العاصف". ورمى لها دارت بكيس كبير من البلاستيك في داخله ملابس جافة : " هيا , أبدلي ملابسك , أنا لا أرغب في تمريض فتاة صغيرة مصابة بالبرد". ونظرت كولبي حولها , أين ستغير ثيابها ؟ ماذا تفعل؟ أنها لا ترى زاوية واحدة تستطيع اللجوء اليها!". " هيا يا كولبي , أنزعي ملابسك وألا أرغمتك على ذلك ". قالها بقسوة وألتفت الى مدخل المغارة ليشغل نفسه بمراقبة العاصفة , وأنصاعت كولبي لأوامره , فأستبدلت ثيابها المبللة بالفستان الجاف الذي أتاها به دارت وعندما أنتهت قالت بخجل: "أنتهيت من أرتداء ثيابي يا دارت". ألتفت اليها متفحصا , كم تبدو رقيقة وصغيرة في فستانها الأبيض. " تعالي الآن قرب النار". ولبت كولبي فورا , ما هو سر هذه السلكة التي يمارسها عليها والتي لا تستطيع التغلب عليها , أنه دارت أبن عمها! لماذا لم تعد تستطيع أذا أن تنظر اليه كما كانت تفعل وهي طفلة , وشعرت فجأة بالخوف من هذا العالم المجهول الذي بدأت تكتشفه بدون أن تفهم أسراره. " ما بك يا كولبي؟ خائفة من التعنيف؟". " طبعا لا, لكنني لا أفهم سر عصبيتك , يبدو أنني أزعجك دائما , لم تكن هكذا ... أو بالأحرى....". وتوقفت فجأة عن الكلام , كان دارت يحدق في المطر وكأنه لا يسمعها , وحاولت كولبي أن تقطع الصمت الثقيل الذي جثم فجأة على جو المغارة. " كنت أبحث عن بوكا". " أعرف , لكنني لا أعرف لماذا لم يحاول أحد أن يمنعك عن القيام بذلك , بوكا بأمان , هو في منزله الآن في أحضان جده , بينما أنت تبحثين عنه في العاصفة , كان على مايك أن يأمرك بالعودة الى المنزل فور أكتشافه لنواياك". " مايك لا يعاملني كطفلة , أنه يعرفني أكثر منك , أنا أمرأة , يبدو أنك لم تلاحظ ذلك بعد , أحب مايك لأنه يشعرني بأنني أمرأة". أقترب منها دارت ووجهه الأسمر يختلج غضبا ,وضع يديه على كتفيها بقوة حتى كادت تصرخ ألما. " يا لك من طفلة ساذجة ,أي كان يستطيع أن يشعرك أنك أمرأة". وأرغمها على رفع رأسها بأتجاهه , دار العالم بها... أستسلمت كولبي لعناقه وكأنها لا تريد التحرر منه أبدا . وأبعدها دارت عنه ليقول ساخرا: " ما رأيك الآن؟ ألا تعتقدين أن أيا كان يستطيع أن يشعرك أنك أمرأة؟". أرتجف فمها أستياء ,وهبته قلبها فسخر منها , أنه يعرف أنها حبه ! لا بد أنه يعرف ذلك الآن , تجاوبها التام بين ذراعيه خير برهان على ذلك , تبا لك يا دارت , تبا لتسلطك وسيطرتك علي , أنا لست أفضل من أي سجين مقيد بالحديد. عقد دارت حاجبيه وهو يراقب وجهها: " هيا يا كولبي , ضعي معطفك حول كتفيك , سنعود الى المنزل , أوقفت سيارتي على بعد أمتار قليلة". أحست كولبي برغبة قوية في البكاء كم تشعر بالتعب والضعف في هذه اللحظة : " خذني الى المنزل يا دارت , أرجوك". " جئت لهذا يا عزيزتي". وفي دفء السيارة , أراحت كولبي جسمها الصغير على المقعد الوثير, قربه منها يؤلمها لدرجة تشعر معها بأن الألم نفسي وجسدي معا , على الأقل سترضي روشيل أخيرا , لا يمكن أن تتحمل أن تكون قريبة منه الى هذه الدرجة وتكون بعيدة عنه في الوقت ذاته. وطوال الطريق الى المنزل أشاحت بوجهها عن دارت لتراقب الطبيعة التي تحب.
11- هدية تحت الشجرة
********************************
في عطلة الميلاد ورأس السنة ,جاء ريال كينغ وزوجته باربرة لزيارة كنغارا , كان ريال صديقا حميما لدارت , وأبن عم بعيد له ولكولبي , أما بربارة العروس التي أقترن بها منذ ستة أشهر فقط , فكانت قبل زواجها من أشهر سيدات المجتمع في أستراليا , وكانت هي التي رغبت بزيارة كنغارا التي تعتبر من أغرب المواقع السامية , بمنزلها التاريخي , وأطارها المميز. وكان اللقاء حارا بين القريبين الصديقين , أما كولبي وبربارة فوقفتا تنظران الى بعضهما بشيء من الحذر حتى أبتسمت بربارة أخيرا فذاب الجليد , أبتسامتها الرائعة ذكرت كولبي بالصور المشرقة التي كانت تراها لها في صفحات الأخبار الأجتماعية , كم هي جميلة وأنيقة ومترفة تفهم الآن لماذا كانت باربارة تعتبر نجمة صالونات سيدتي الفكرية والأجتماعية , وبالأضافة الى هذا كله كانت السيدة الشابة بارعة في فنون الفروسية والتزلج على الماء والجليد ولاحظت كولبي أن أبتسامة بربارة تزداد أشراقا كلما أقترب منها زوجها ريال , كان من الواضح أنها تحبه جدا , عيناها فضحتا حبها , وكذلك نبرة صوتها التي تتدفق حنانا كلما تحدثت اليه ,وريال بالطبع كان الزوج الذي تحلم به أي فتاة طويل القامة , أسمر اللون , تنم تقاطيعه عن أصالة تميز جميع أفراد عائلة كينغ والى جانب هذا كله ,كان الوريث الوحيد لمزرعة كينكومبلا , لم يكن غريبا أذن أن تختاره بربارة من بين كل الرجال الذين تقدموا لخطبتها وأكدت السيدة كينغ أكثر من مرة أنه لم يكن هناك حتى مجال واحد للتردد والأختيار بين ريال وبينهم , ألتقاها زوجها خلال أحدى رحلات العمل التي يقوم بها الى سيدني وفور وقوع نظره عليها قرر نهائيا أنها ستكون زوجته , برغم أن بربارة كانت آخر من علم بهذا القرار. وتوطدت أواصر الصداقة بين بربارة وكولبي , وصارتا تجوبان معا المنطقة على ظهر الخيل وفي رفقة بوكا , وخلال أحدى النزهات أخذت بربارة تتحدث بأنفعال عن حبها لزوجها , شعلة الغرام في عينيها جعلت كولبي تشعر برغبة في البكاء , فلاحظت السيدة الشابة تأثرها فرقت عيناها عطفا عليها: " كولبي العزيزة , يبدو أنني ضايقتك من حيث لا أدري". أبتسمت كولبي بتعب وهي تحاول أن تضع في صوتها نبرة ساخرة: " حدس المرأة يا بربارة لا يخيب". " أنه دارت طبعا!". أستطاعت بربارة بلحظة , وبقوة ملاحظتها أن تدخل فورا الى أعماق كولبي. " لا بد أنه دارت". ولم تجب كولبي بل رفعت رأسها الى السماء رددت بربارة ببساطة متناهية: " طبعا أنه دارت , لا ألومك , آل كينغ نوع خاص جدا من الرجال". وظل تعليقها للحظات طويلة معلقا فيالهواء بأنتظار رد الفعل عليه فأجابت كولبي ببطء: "أنا أبنة عم دارت الصغيرة يا بربارة , أنت لم تلتق بروشيل تينانت بعد , أنها من مزرعة تينانت , جارتنا على الحدود الشمالية الشرقية". " هل من المفروض أن يعني ذلك شيئا خاصا؟". " نعم , بيللا ترتب حفلة عشاء لمساء غد , ستلتقين بها في الحفل , أنها الفتاة المناسبة لدرات , هي بنفسها قالت لي هذا , أنها شابة سمراء رشيقة وجذابة". كان هناك أثر من الأسف والحزن في صوت كولبي. ضحكت بربارة عاليا وضجت عيناها مرحا: " فور عودتنا الى المنزل أنظري الى نفسك جيدا في المرآة يا كولبي , أنت فتاة جميلة جدا , لك شخصية مميزة , ورقة طفولية , هذه معادلة كفيلة بهزم أقوى الرجال". وتألقت كولبي فرحا وهي تستقر بعينيها الخضراوين على صديقتها الجديدة. " وأنت داعم رائع لمعنوياتي يا سيدة كينغ , لكنك متفائلة جدا , للأسف دارت لن ينظر اليّ ألا كفتاة صغيرة متموجة الخصلات , تلاحقه أينما ذهب ,أنا لست بأمرأة غامضة وساحرة". " هذا ما تعتقدينه , علي أن ألقنك بعض الأسرار الأستراتيجية التي أستخدمتها مع زوجي , وأثبتت نجاحها كما ترين". ورفعت بحركة عفوية خصلات شعرها الأشقر الذي تهدل على جبينها , وتلاعب بريق شقاوة في عينيها وراحت تؤكد بخبرة المرأة الناضجة: " كلما أفكر بالأمر كلما أصبح أكثر ثقة بأنك المرأة المثالية لدارت أنا معجبة به جدا , أنه من ذاك النوع من الرجال الذين يحتاجون الى زوجة فائقة الأنوثة". وهمست بصوت منخفض وكأنها تخطط لمؤامرة: " أنا أدرى منك بهذه الأمور , دارت لا يختلف كثيرا عن ريال ,ويدو أنني وأياك نتفق كثرا". وتبادلتا أبتسامة سريعة , وللحظات عرفت كولبي معنى الأمل , وتجرأت على الحلم ,وتابعتا نزهتهما بين أحضان الطبيعة فأرتعشت الأزهارالبرية لدى مرورهما ,وعادت لتغفو بهدوء على كتف المساحات الواسعة من العشب الأخضر. كان المنزل يشع بالأضواء والأزهار ,نزلت بيللا الى غرفة الأستقبال لتشرف على الترتيبات النهائية قبل وصول الضيوف , بعد قليل ستصل روشيل برفقة والدها جوستان تينانت , وألقت بيللا نظرة رضى على غرفتي الجلوس والطعام , وقررت أنهما لا يمكن أن تبديا أفضل من ذلك , كولبي ماهرة حقا في وضع اللمسات النهائية يكفي أن تقوم ببعض التغييرات هنا وهناك لتتألق الزهور في أروع حلة , وتوقفت نظرات بيللا على مائدة الطعام , ثلاث قطع من الكريستال الشفاف غرقت تحت مهرجان من البنفسج توزعت بينها شموع بيضاء صغيرة كحبات الندى , عليها أن تتذكر أضاءتها مباشرة قبل العشاء , أنه الجو الأمثل لأثارة الشهية والأحاديث. في زاوية غرفة الجلوس تألقت شجرة الميلاد بكل أضوائها لترحب بالضيوف , لا بد أن دارت أنفق ثروة كبيرة في بريسبان كما تلاحظ من خلال كثرة الهدايا تحت الشجرة ما أجمله من وقت , وأحست بيللا وكأنها عادت طفلة صغيرة تتحرق شوقا للعيد. وبعد نصف ساعة كان البيت يضج بالموسيقى والضحكات , سوزان برغم أشراقها المميز كانت تتصرف بنضج ورزانة لم تتوقعهما بيللا من أبنتها , للمرة الأولى تراها ترتدي فستانا أنيقا زادها جمالا لونه الأزرق الداكن المحلى بتطاريز رقيقة , أبرز لون عينيها الزرقاوين , أمضت الأم وأبنتها معظم النهار في البحث عن هذا الفستان. كولبي كانت رائعة في فستانها الأسود البسيط كانت تجمع بين الأنوثة والطفولة , رقيقة كوردة برية , اللون الأسود يليق بها فعلا , فشعرها الناري أشتعل أكثر فوق الثوب الداكن أما عيناها فبدتا أكثر أتساعا وأخضرارا وزادهما عمقا وأقترابا من الطبيعة الكحل الداكن الذي أستعملته حولهما , وعرفت بيللا أن بربارة هي المسؤولة عن هذا الأغراء الجديد في عيني كولبي اللتين لم تعرفا الكحل من قبل . وكانت بربارة غافلة عما يدور في ذهن بيللا فهي مستغرقة في الحديث مع دارت مما أثار غيرة روشيل التي لم ترفع عينيها عنها لحظة , برغم أنها هي أيضا كانت تبدو في قمة أناقتها وجاذبيتها في ثوبها الحريري الأحمر. وتشعب الحديث ليتناول مواضيع مختلفة ,وأظهر جوستان تينانت أطلاعا واسعا ينم عن ثقافة عالية , أعجبت به كولبي كثيرا , أنه رجل طيب وودود , يفرض أحترامه على الجميع. راقبها جوستان بأهتمام وهما يتحدثان عن أشياء مختلفة ومرت على شفتيه أبتسامة عابرة: " أتعرفين يا آنسة كينغ , أنك لست كما توقعت!". " وماذا توقعت يا سيد تينانت؟". " لم أتوقع أن ألتقي مع فتاة طيبة ومرحة ودافئة لا تعرف معنى المكائد والدسائس". تكلم بدون تفكير ,وبدون أن يتوقف لحظة واحدة ليراقب أثر كلماته على وجه الشابة الجميلة ,كم هي رقيقة وبريئة ! ليست أبدا كما كما وصفتها له أبنته روشيل , بصراحة كانت العكس تماما عما أوحت به اليه , مسكينة روشيل! تفقد صوابها عندما يتعلق الأمر بدارتلاند كينغ. وأنصرف أهتمام كولبي الى ريال الذي كان يشكو عاليا من أنه مهمل في هذه الأمسية , وأغرقها قريبها بالأسئلة والتعليقات وما هي ألا دقائق معدودة حتى كانت تضحك عاليا تجاوبا مع سحر أبن عمها البعيد. دارت كان يترأس الطاولة , سمع ضحكاتها فأبتسم لها ساخرا ,وردت عليه بنظرة متحدية , نقل ريال بصره بينهما بأهتمام واضح , ثم حوّل نظره الى روشيل ليستقر أخيرا على كولبي التي لاحظت تساؤله الصامت فأجابت بعفوية : " لا تقل شيئا". نظر اليها ريال مطولا وأستراحت قسمات وجهه. " حسنا لكنني سأثير القضية تدريجيا". الحنان في عينيه جعل كولبي تشعر أن لها حليف قوي في العائلة. بعد العشاء سيقيم السكان الأصليون حفلة راقصة ترحيبا بالسيد دارت وضيوفه , كانت الليلة رائعة , السماء المخملية أخذت تغمر الكون بعيونها الصغيرة البراقة التي تناثرت أضواء فرحة في عتمة الليل. أخذت كولبي نفسا عميقا وهي تشعر بالحزن والسعادة في وقت واحد , الهواء يتلاعب دافئا على وجنتيها مشبعا بعطر الأزهار الليلية أضواء البيت أنسكبت شلالات من الفضة على حديد الشرفة , وتدحرج بعضها كلآلىء صغيرة على عشب الحديقة ومن الداخل كانت تصلها أصوات الأحاديث والضحكات , ليلة رائعة فعلا يمتزج فيها الفرح بالسكون والسلام. قرب الينبوع أشتعلت السماء بوهج النيران التي أشعلها السكان الأصليون أحتفالا بعيد الرجل الأبيض اليوم عيد وسوف يلتقون بعد قليل حول مائدة كبيرة مزينة بالزهور , وبجميع أنواع الفواكه , ومن سلال القش البدائية تصاعدت رائحة لحم العجل المشوي. رفعت كولبي وجهها الى القمر الذي كان يتأرجح سعيدا بين الأغصان وأغمضت عينيها لتستبقي فيهما الحلم لأطول فترة ممكنة , هذه هي كنغارا حلم طفولتها , ومنبع جذورها , فكيف يمكن أن تبتعد عنها؟ وسمعت كولبي وراءها وقع أقدام فأنقطع السحر أنها روشيل: " كيف حالك يا طفلتي الصغيرة ؟ لا تظني أنني لم ألاحظ محاولاتك للفت نظر دارت , فستانك الأسود , والكحل في عينيك... أتعتقدين أنني غافلة عن كل هذا". ورفعت روشيل يدها لتصلح بعض ما تناثر من شعرها , ثم نظرت الى كولبي بكثير من السخرية والتعالي. " وتذكري أيضا أن أقامتك هنا مؤقتة , لا تحاولي التقرب من كل أفراد العائلة لتحقيق أهدافك الخاصة". وأتسعت عينا كولبي ألما وأستياء: " يا ألهي روشيا! أنت أنسانة غريبة فعلا , أذا كنت تحاولين أخافتي , فلن تنجحي في ذلك , ليس هذا الوقت أو المكان المناسب". شحب لون روشيل ,وبدا كأنها تريد أن تلجأ الى العنف لكنها تمالكت أعصابها في اللحظة الأخيرة: "أنذرك مرة أخيرة يا كولبي , لا تحاولي التحايل علي لو فعلت ذلك ستندمين , أنا أعرف ماذا تريدين , ودارت يدرك تماما الطريقة التي يعمل بها عقلك... الفستان الأسود وغيره!". تسمرت كولبي في مكانها , وجهها كان يعبر عن الحزن والقرف معا , ستكتفي بالصمت , كرامتها لا تسمح لها بالرد على مثل هذه الأتهامات , يا لها من أمرأة قاسية! لا يهمها الأساليب التي تستعملها لأزالة المنافسة. " سأقول لك شيئا واحدا يا روشيل ,وهو أنك ضيفة مزعجة". رنت ضحكة روشيل قصيرة قاسية: " من حسن الحظ أن هذا رأيك وحدك , ورأيك لا يهمني". وقطع عليهما الحديث أقتراب مايك منهما: " آسف , هل قطعت حواركما؟". وحاولت روشيل أن تضمن أجابتها مزيدا من التجريح بمنافستها : " لا, الحديث لم يكن ممتعا في أي حال , ما زالت كولبي طفلة صغيرة , سأترككما معا لأخلي لكما الجو". وأبتعدت قبل أن يعلق أحد منهما على كلماتها المبطنة... " يا لها من أمرأة شريرة , لا تهتمي بها يا كولبي , من الواضح أنها تغار منك". وضع مايك ذراعه حول كتفيها وسارا معا الى الحديقة. " طبعا تغار , أنا مثلا لم أستطع أن أرفع بصري عنك طوال السهرة". وبعد فترة كان الجميع يجلسون في الشرفة لمشاهدة الأحتفال الذي أقامه السكان الأصليون لهم , أسترخت بيللا في مقعد وثير قرب سوزان وستيفن والى يمينها جوستان تينانت , بربارة وريال أستقرا قي زاوية الشرفة قرب دارت وروشيل , أما مايك فظل الى جانب كولبي لا يفارقها. وبدأ الحفل بمجموعة من الرقصات الوطنية قام بها الراقصون بخفة وبراعة. وعلى رؤوسهم أشكال غريبة صنعوها من ريش الببغاوات الملون أما صدورهم البرونزية فكانت مزينة برسوم يمثل كل واحد منها أسطورة وطنية عبر عنها أصحابها بالأحمر والأصفر والأبيض. وتصاعد الأيقاع في الهواء صاخبا , ورقيقا أحيانا أخرى , وأمتزجت الأجسام مع النغم , حتى شكلت وحدة متكاملة يصعب الفصل بينها , صارت الرقصة أغنية والأغنية رقصة وحبس المشاهدون أنفاسهم أمام هذا الأستعراض البدائي الراقص الذي يتفاعل معه المرء بكل عواطفه , والذي يفجر في الأعماق أحاسيس غريبة تعيد الأنسان الى فطرته بعيدا عن القيود الزائفة شعولا لا يستطيع أن يختبره الا من عاش قريبا من الأرض , تمكن الراقصون بساعات قليلة من نقل كل أختلاجات الطبيعة الأنسانية من خوف وحلم وأمل وعنف. وعندما خفتت الموسيقى , وهدأت الأجسام أرتفع التصفيق يعبر عن الأنفعالات المشتركة التي جمعت بين الأصليين والبيض بدون تمييز. ومرت بقية السهرة وكولبي تشعر أنها خارج الزمان والمكان .... دارت يتجاهلها تماما كأنها غير موجودة , أهتمامه المبالغ بروشيل كان وحده كفيلا بتمزيقها ومنافستها تتصرف كأنها سيدة كنغارا , وحاولت كولبي أن تتمالك أعصابها قدر المستطاع , لا تريد أن تلاحظ روشيل ضعفها , ستسخر منها , يكفيها ما حصل حتى الآن. وحاول مايك وستيفن التخفيف عنها قدر المستطاع , لكنها لم تستطع أن تبعد عينيها عن رأس دارت وروشيل المتقاربين , كم كانت تتألم في هذه اللحظة! كانت روشيل تتكلم بحماس وثقة المرأة الناضجة التي تعرف جيدا أنها أستطاعت الفوز بالرجل الذي تحب أبنة عم دارت الصغيرة لم تعد تشكل خطرا عليها, دارتلاند كينع أصبح ملك يديها , وكذلك كل أملاكه ,ووضعت روشيل يدها على عنق دارت , فعرفت كولبي معنى الغيرة التي تجعل القلب ينزف دما , ضحكت بصوت مرتفع لتخفي أضطرابها , لن تسمح لأحد بأن يتشف شعورها الحقيقي ولم تعد كولبي تطيق النظر اليهما أكثر من ذلك , فحولت أهتمامها الى ريال وبربارة , كان يرقصان على أنغام موسيقى ناعمة ,كعاشقين لا يريان في الدنيا ألا حبهما ,ما أسعدهما من زوجين! وأنفض الحفل , فلجأت كولبي الى غرفتها , أخذت تسير ذهابا وأيابا بين الجدران الأربعة , عاجزة عن الأستقرار في مكان واحد , حتى الدموع أستعصت عليها آه لو كانت أكثر نضجا وخبرة , لعرفت عندها كيف تتعامل مع هذه الأزمة العاطفية التي تهز كيانها , دارت كان في كل شيء حولها , في الهواء الذي تتنفس... لا تستطيع مقاومة حبه المغروس عميقا في كل وجودها ,نظرة واحدة الى وجهه الأسمر كانت كفيلة بهزها عنيفا , لم تشعر في حياتها بكل هذا الضعف والأذلال. ونظرت الى صورتها المنعكسة في المرآة : " آه لو كنت أكثر نضجا". وبحركة طفولية مدت لسانها هازئة ,تسخر من صورتها , عليها أن تأوي الى فراشها الآن ,وهي متعبة وتريد أن تنام وفجأة تذكرت هدية دارت , كانت تنوي أن تعطيه اياها على أنفراد , لكنها غيرت رأيها الآن ,ستضعها تحت الشجرة مع بقية الهدايا ,أختارت له هدية تعني لها الكثير ستقدم له أزرار أكمام من الذهب الخالص والأوبال كانت تخص والدها, كم تتمنى لو تستطيع البكاء , لا لن تبكي لم تعد طفلة , ستنزل الآن بهدوء لتضع الهدية تحت الشجرة. ولم تكد تدخل غرفة الأستقبال حتى أستوقفها دارت: " ماذا تفعلين هنا يا عصفورة الجنة؟ أنت ترتعشين". لم تجبه بل تابعت سيرها الى الشجرة , فأرغمها على التوقف: " وماذا تخبئين في يدك يا ساحرتي الصغيرة , لا تقولي أنك تحملين قلبك على يدك لتقدميه لي هدية!". ثارت كولبي لكرامتها أمام هذه السخرية الواضحة بها , فأجابت بعنف: " لا , قلبي ليس لك يا دارتلاند كينغ". " هل هذا قرارك النهائي؟". " نعم , كم أكرهك يا دارت". قالتها بقوة وهي تتمنى لو كانت صادقة فعلا في قولها. زكانت ردة فعله فورية أحتضنها بقسوة وهو يردد بعنف: " لن تتوقفي عن حبي وأنت حية يا كولبي". وحاولت أن تتخلص من قبضته بدون جدوى كان أقوى منها. " كنت شديدة الأغراء هذا المساء يا صغيرتي بفستانك الأسود , لا بد وأن مايك أخبرك بذلك , الرجال كلهم وقعوا تحت سحرك , وأنا واحد منهم". وصفعته كولبي بقوة , وللحظات حل صمت ثقيل بينهما , لم يتحركا من مكانهما , وأحست كولبي بالخوف وهي ترى دارت يحاول اجاهدا السيطرة على غضبه. " أذهبي الى فراشك يا كولبي قبل أن أفقد أعصابي". وركضت كولبي الى غرفتها والدموع تنهمر من عينيها... دموعها سترافقها في الليالي المقبلة كلما تذكرت هذه اللحظة الأليمة , طعنها دارت في الصميم وجرحها لن يضمده الزمن ,لن تعرف السلام بعد الآن , ستجد طريقة تفر بها من الحصار الذي فرضه عليها دارت ,وستغادر هذا السجن الأجباري بدون رجعة ستحرر من قبضته أخيرا.
12_ سيدة كنغارا
***********************
كانت بحيرة كينكوميلا مكانا رائع الجمال , يحيط بها سور كثيف من النباتات الخضراء , تطرزه الزهور كلوحة برية تحميها العصافير والفراشات . جلست كولبي ساهمة على صخرة قرب الشاطىء , تلقي الحصى في المياه وتراقب الدوائر الكبيرة اللاهثة على سطح البحيرة حتى تعبت وأختفت , كان الحر شديدا في الطرقات , أما هنا فالنسمات المنعشة تتلاعب بين الأغصان هربا من أشعة الشمس. أسندت كولبي ظهرها الى جذع شجرة قديمة غير مبالية بوخز الأغصان اليابسة التي أخترقت قميصها الرقيق, مضى على وجودها في كينكوميلا أسابيع ثلاثة عاشتها في حال من الخمول النفسي وكأنها معلقة خارج المكان والزمان فقط صورة دارت كانت تعيدها الى الحياة بين حين وآخر , وتخرجها من جمودها , كيف تستطيع أن تنسى الوجه الأسمر الحبيب , وتقاطيعه مغروزة عميقا في ميانها. وأتجهت أفكار كولبي الى بربارة بعرفان ومحبة , أنها صديقة رائعة فهناك رابط قوي جمع بينهما بسرعة وما من مرة طوال الأيام الفائتة حاولت بربارة لفظ الأسم المحرم , برغم أنها غالبا ما كانت ترغب في التطرق الى موضوع دارت. بربارة هي التي أقترحت بل أصرت على أصطحاب كولبي معها الى كينكوميلا , لا يستطيع أحد أن يفلت من قوة ملاحظتها نظرة واحدة الى وجه كولبي , صباح ايوم الذي أعقب الحفلة , جعلتها تتخذ القرار بأبعاد كولبي عن كنغارا , وعندما تتخذ بربارة قرارا كان من عادتها العمل بسرعة على تنفيذه. رأت كولبي هذا التدخل وكأنه أشارة من السماء , بربارة قادت أولى خطواتها على طريق الخلاص , أنها المخرج الوحيد لفك الحصار الذي فرضه عليها دارت , أفراد العائلة جميعهم لاحظوا التوتر السائد بينها وبين أبن عمها , فللمرة الأولى تتجنب رفقته ويتجاهل هو وجودها. لم يعارض دارت قيام كولبي بهذه الرحلة القصيرة , وأعتبرها أجازة مؤقتة تعود بعدها أبنة عمه الى المنزل , أما بيللا فرحبت بالفكرة لأنها أحست بغريزتها الأنثوية حاجة كولبي الأبتعاد عن أجواء كنغارا. ورحلت كولبي عن منزل طفولتها , وبرغم ألمها لهذه الغربة القسرية ,أحست بالراحة لوجودها مع ريال وبربارة التي لم تكن تخفي تعلقها الشديد بصديقتها الشابة . وكانت بربارة تحب الأستغراق في قيلولة قصيرة بعد الظهر , عكس كولبي التي أخذت تنتهز هذا الوقت لتنفرد بألمها قرب البحيرة . أستلقت كولبي على الأعشاب , وأرخت رأسها على يديها تحدق بزرقة السماء التي تناثرت قطعا صغيرة بين أوراق الشجر. وأغلقت الشابة العاشقة عينيها وشرد ذهنها مجددا وراء الحلم الوحيد الذي يشغل بالها , وسقط شعاع الشمس على وجهها , ففتحت ذراعيها تستقبله كطفلة سعيدة بالدفء والجمال المحيط بها , وفي مكان ما في داخلها أحست كولبي بشيء من السلام. عليها أن تتوصل سريعا الى حل يريحها من الصراع الذي يمزقها , لكن كيف؟ لا تستطيع البقاء في كينكوملا برغم معاملة ريال وبربارة الطيبة وعادت تتعثر على الطريق الوعرة ذاته الطريق التي تقودها الى دارت , ترى ماذا يفعل الآن؟ ربما تمكن في غيابها من حل المشاكل التي كانت تقيد علاقته بروشيل . وأسترجعت في ذهنها صورة الوجه الأسمر الوسيم الذي تضيئه عينان رماديتين واسعتان , تأوهت عاليا وهي تحاول أن تدفن ألمها عميقا في داخلها , أينما كانت صورة دارت لا تفارقها ,وحدقت بسرب من الطيور حلق فوقها فاتحا أجنحته للفضاء الرحب , آه لو تستطيع أن تصبح حرة هي أيضا! هل هكذا يشعر كل الناس عندما يحبون؟ وهل يفقد المرء هويته ليذوب في شخصية الحبيب؟ كانت تعتقد أن شيئا لا يمكن أن يفرق بينها وبين دارت , هل يمكن أن يفترقا ؟ لا , من المستحيل حدوث ذلك! وأحست أخيرا بالتعب يشل أعصابها وذهنها فغرقت في نوم عميق, لم تنم منذ عدة ليالي. وأمتدت الظلال على جسمها الساكن , وسقطت بضع وريقات يابسة تداعب شعرها الناري بحنان , وأفاقت من سباتها على زقزقة العصافير التي أخافها وجود شخص ما ,وفجأة أنهالت عليها الحصى من شجرة قريبة , فرفعت رأسها لترى من يداعبها بهذه الطريقة . وخفق قلبها بشدة ,دارت! كم تحبه وتريده , لكن كيف تستطيع الهروب منه وهو مصمم على ملاحقتها لسبب لا تفهمه ! رفعت رأسها بأعتداد وأستقامت في جلستها وهي تراه يقترب منها صارخا: " مفاجأة ! مفاجأة!". لم تجب ولم تتحرك من مكانها فسألها بأهتمام: " ألا تنوين العودة الى المنزل يا كولبي؟". وسقطت خصلة شعر فوضوية على جبينها فرفعتها بعصبية , وحاولت كولبي السيطرة على رعشة يديها وهي تجيبه ساخرة: " لم أكن أعلم أنك حددت فترة أجازتي بوقت معين يا دارت". ضاقت عيناه وتقلصت عضلات وجهه دلالة التوتر المتفاعل في داخله : " لا تتحديني ا صغيرتي , قد أغضب ,وأنت تعرفين جيدا معنى غضبي". ووضع يده على كتفها في لمسة تعرفها جيدا. " ألم تشعري طوال هذه المدة بشوق لرؤيتي؟". وجالت عيناه على وجهها تتفقدانه بأهتمام دافىء: " أرى أنك خسرت شيئا من وزنك يا عزيزتي ,ألم يكن ريال يطعمك جيدا". أشاحت كولبي بوجهها وهي تؤكد: " أقامتي هنا كانت ممتعة جدا يا دارت , عاملتي ريال وباربرة بمودة فائقة , وأستقبلاني بصورة رائعة , شعرت أنني واحدة من العائلة , وأنني أعيش فعلا في منزلي". وأرتدى دارت قناعه الساخر مرة أخرى: " وهل تحمل كلماتك هذه أتهاما مبطنا؟". " لا , ما لم تكن أنت ترى فيها ذلك!". وأنحنت لتلتقط كتابها الذي سقط أرضا: " لا تتحدينني يا كولبي , لم أعد أحتمل المزيد". وفجأة أختفى كل أثر للسخرية عن وجهه , وحل مكانها تعبير تراه كولبي للمرة الأولى: " ماذا تريد مني يا دارت ؟ أن أعود الى المنزل كطفلة مطيعة ؟ لا أستطيع......". وأرتجف صوتها , فعرفت فورا أنها ضعفت مرة أخرى , سيكون الأمر هكذا دائما مع دارت! وأنطلقت تركض هاربة منه , كحيوان بري خائف من الوقوع في قبضة الصياد , وتمكن دارت من الأمساك بها في سهولة , أحاطها بذراعيه , فأفلتت منه وعادت تجري , لم تستطع أن تبتعد كثيرا , تعثرت بجذع شجرة يابسة ووقعت باكية في العشب. أنحنى عليها , ورفعها بين ذراعيه , فخبأت رأسها بين يديها كطفلة صغيرة لا تعرف كيف تدافع عن نفسها. " لا , لا يا دارت". وكان جوابه الوحيد على دفعها المستميت قبلة طبعها بحنان على جبينها المبلل بالعرق , لم تتمرد بل أستكانت بين ذراعيه وهي تشعر بأرهاق شديد , أبقاها دارت قريبة من قلبه. " ستعودين معي يا كولبي ... أحبك ولن أدعك تهربين مني ,آسف أذا كانت مشاريعك لا تتوافق مع رغبتي , لكنني لن أدعك تبقين بعيدة عني بعد الآن , سأعود بك الى كنغارا حيث تنتمين". أتسعت عيناها للمفاجأة , يحبها! تكاد لا تصدق ما تسمع. " تحبني..........؟". تمتمت الكلمة وكأنها تحلم , الدهشة الطفولية في صوتها جعلت دارت يبتسم بحنان برغم التوتر الذي ما زال يشعر به يهز كل كيانه : " نعم يا حبيبتي ... نعم أحبك!". وأحست كولبي بدفء أنفاسه ,وعندما ألتقت نظراتهما أخيرا رأت كولبي في عينيه كل الحب الذي كانت تتمنى , أحاطت عنقه بذراعيها , وألقت رأسها على كتفه بشوق ,وللمرة الأولى منذ أسابيع طويلة راحت تتنفس بعمق ,وبعد لحظات تمكنت أخيرا من القول: " وعندما أفكر أنني كنت اغار من روشيل". ونظرت اليه عاتبة , فرأت وجهه يشرق فرحا ... دارت كما عرفته دائما... فارس أحلامها. " وما العيب في قليل من الغيرة يا كولبي , أعترف أنني ربما أكون قد بالغت قليلا في أظهار أهتمامي بها ,لكنها الآن في طريقها الى الولايات المتحدة , هكذا أخبرتني سوزان , كنت أعلم أن قلبي لا يمكن أن يكون ألا لأمرأة واحدة , نارية الخصلات وحادة الطباع , أحببتك يا كولبي منذ الليلة الأولى التي عدت فيها الى كنغارا". وأنزل يدها التي كانت تداعب شعره ليعانقها بحنان: " تبا لك يا دارت! لماذا رضيت لي بكل هذا العذاب؟ آه لو تعرف كم عانيت في الأسابيع الماضية". وضمها الى صدره بقوة , يريد أن يحمي حبه الصغير من أي ألم. " كان علي أن أمتحنك بعض الوقت لتمتحني صدق عواطفك أتجاهي , لكنني لم أستطع الصبر أكثر من ذلك , أنا لم أكن أبدا بارعا في الأنتظار , نحن لبعضنا منذ ولادتنا , الطبيعة كلها كانت تنتظر هذه اللحظة , أنت جزء مني يا كولبي ,جزء من قلبي ومن عقلي". وغردت السعادة في عينيها الخضراوين كم تحبه , دارت .... رجلها. " وأنت أيضا جزء مني يا حبي الوحيد , ها أنا أعترف لك بشعوري , فلا تستغل الفرصة لتمارس سيطرتك عليّ". وعادت تغرق وجهها في كتفه , ولم يتحركا من مكانهما لحظات طويلة , أستغرق دارت في تأمل جمالها لكنه أفاق أخيرا من نشوته: " فلنعد الآن الى ريال وباربرة , سنخبرهما ما يتوقعان سماعه". فأجابته بمرح: ط بأنني سأعود الى المنزل أخيرا". أبتسم لها بحنان ... وتملك: " لا يا حبيبتي ... سنخبرهما أنه سيكون لكنغارا سيدة جديدة , وأن مقاطعة كينغ تنتظر عروسي الجميلة".
النهاية

تحميل الرواية مكتوبة

تحميل الرواية مصورة

الذهاب إلى الصفحة الرئيسية للموقع